صراع المحاور بين إيران وأمريكا: لماذا يتخلف العرب عن إنتاج خيار ثالث؟

0

الدكتور سعود الشَرَفات

مؤسس ومدير مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والارهاب

تعيش المنطقة العربية منذ عقدين على الأقل في قلب صراع جيوسياسي محتدم بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، صراع يتخذ أشكالًا متعددة، من الحروب بالوكالة، إلى الضغوط الاقتصادية، فالمواجهات الاستخباراتية والعسكرية المحدودة، وصولًا إلى جولات تفاوضية مغلقة ترسم مستقبل الإقليم بعيدًا عن الفاعلين العرب.
ومع أن طبيعة هذا الصراع ظلت تتغير بتغير الإدارات الأمريكية وتبدل التوازنات الإقليمية، إلا أن الثابت الوحيد هو الغياب المنهجي للموقف العربي الموحد، ليس فقط عن مراكز التأثير، بل أيضًا عن صياغة خيار ثالث مستقل، يُعبر عن مصالح الدول العربية من منطلق وطني قومي، لا كامتداد لمحور أو رديف لاستقطاب.
هذا الغياب لا يمكن تفسيره فقط بضعف الموارد أو الانشغالات الداخلية، بل يجب فهمه ضمن إطار أعمق يتعلق بـ فقدان الإرادة السياسية لبناء رؤية عربية استراتيجية جامعة، وقصور مزمن في التفكير الأمني والسيادي، سمح لقوى خارجية ـ مثل إيران وأمريكا وإسرائيل ـ بإدارة المشهد دون استئذان، بينما تُستدعى الدول العربية إما كممولين، أو كأدوات، أو كساحات للنفوذ المتبادل.
في سياق التفاعلات الأخيرة، تراجع التلويح الأمريكي بـ “تغيير النظام” في طهران ليحل محله خطاب أكثر براغماتية، مفاده أن “مستقبل إيران يقرره شعبها”. تصريح يبدو في ظاهره دعمًا لحق تقرير المصير، لكنه في عمقه يعكس تحولًا في أولويات واشنطن نحو موازنة النفوذ لا إسقاط الأنظمة، خصوصًا بعد التجربة العراقية والأفغانية. اللافت هنا أن هذه البراغماتية لم تُطبق في حالات عربية أخرى كليبيا أو سوريا، ما يكشف عن ازدواجية صارخة في مقاربة الأمن الإقليمي.
بناء على هذه المعطيات، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات لمسار العلاقة بين إيران وأمريكا:

  1. تحالف مصلحي مرحلي يعيد إنتاج تقاسم النفوذ.
  2. عداء مفتوح يُستثمر في تسويق صفقات التسلح وخلق بيئة أزمات دائمة.
  3. صفقة إذعان متبادلة تُنهي التصعيد الظاهري وتكرّس الأمر الواقع.
    لكن المفارقة الأبرز هي أن العرب سيخسرون في جميع هذه السيناريوهات، لأنهم ببساطة ليسوا جزءًا من طاولة التفاوض ولا من حسابات التسوية. في سيناريو التحالف، تُمنح طهران دورًا وظيفيًا مقابل تقليص “التوتر”، وفي سيناريو العداء تُستخدم العواصم العربية كجبهات مفتوحة للحرب بالوكالة، أما في صفقة الإذعان، فتُعاد صياغة خرائط النفوذ فوق رؤوسهم.
    في ظل هذا الاصطفاف، يبقى العرب في موقع “المفعول به”، رغم امتلاكهم عناصر القوة: الجغرافيا، الموارد، الموقع الاستراتيجي، والعمق الحضاري. المشكلة ليست في الإمكانيات بل في انعدام الرؤية والسيادة في القرار الاستراتيجي.
    والأسوأ من الغياب الرسمي، هو غياب الإنسان العربي كمواطن فاعل. فالفرد في العديد من الدول العربية يُقصى عن المجال العام، وتُختزل علاقته بالدولة في الطاعة والانضباط والاحتفال بإنجازات رسمية قد لا تمس واقعه المعيشي أو الأمني. فكيف يُطلب من هذا المواطن أن يدافع عن هوية أو سيادة، إن لم يكن شريكًا في صياغتهما؟
    وسط هذا المشهد المتوتر، يظل طرح “الطريق العربي الثالث” ضرورة استراتيجية. وهو ليس طريقًا رماديًا بين الأبيض والأسود، بل مشروعًا متكاملًا يقوم على:
    • بناء تحالفات عربية داخلية تتجاوز الخلافات المرحلية.
    • استعادة القرار السيادي المستقل بعيدًا عن التبعية لمحاور خارجية.
    • إعادة تعريف الأمن العربي بمعايير عربية لا أميركية ولا إيرانية.
    • إصلاح الداخل سياسيًا واقتصاديًا لتأمين الحاضنة الاجتماعية اللازمة لأي مشروع استراتيجي.
    قد يبدو هذا الطرح مثاليًا أو مؤجلًا، لكنه بات ضرورة لا ترفًا. فاستمرار العمل ضمن ثنائية “مع إيران أو ضدها”، “مع أمريكا أو ضدها”، يضعف النظام الإقليمي العربي ويحوّله إلى مشهد مرتهن بالكامل للقرارات الخارجية.
    في زمن تشتد فيه المحاور وتُعسكر فيه الخيارات، يصبح التمرد على هذه الثنائية فعل سيادة وإعادة تموضع ناضج. والبديل عن ذلك هو مزيد من الاستنزاف، ومزيد من تهميش القرار العربي، لصالح وكلاء الخارج ووكلاء الداخل معًا.
    إن المطلوب ليس فقط الخروج من الصراع، بل الدخول فيه من موقع الشريك لا التابع، عبر مشروع عربي مستقل، عقلاني، ومرن، يُعيد تشكيل موازين القوى من داخل المنطقة لا من خارجها.
    وحتى ذلك الحين، سيبقى السؤال مطروحًا بإلحاح:
    لماذا يتخلف العرب عن إنتاج خيار ثالث؟
    وهل ما زال في الوقت متسع لتصحيح المسار قبل أن يُفرض عليهم شكل النظام الإقليمي القادم دون رأي ولا مشاركة؟

About Author

Saud Al-Sharafat ,Phd https://orcid.org/0000-0003-3748-9359 Dr. Al-Sharafat is a Brigadier-General (Ret), Jordanian General Intelligence Directorate (GID). Member of the National Policy Council (NPC), Jordan, 2012-2015. The founder and director of the Shorufat Center for Globalization and Terrorism Studies, Amman. His research interests focus on globalization, terrorism, Intelligence Analysis, Securitization, and Jordanian affairs. Among his publications: Haris al-nahir: istoriography al-irhab fi al-Urdunn khelall 1921-2020} {Arabic} {The River Guardian: the historiography of terrorism in Jordan during 1921-2020}, Ministry of Culture, Jordan, www.culture.gov.jo (2021). Jordan, (chapter)in the Handbook of Terrorism in the Middle East, Insurgency and Terrorism Series, Gunaratna, R. (Ed.), World Scientific Publishing, August 2022, 47-63 https://doi.org/10.1142/9789811256882_0003. Chapter” Securitization of the Coronavirus Crisis in Jordan, “Aslam, M.M., & Gunaratna, R. (Eds.). (2022). COVID-19 in South, West, and Southeast Asia: Risk and Response in the Early Phase (1st ed.). Routledge. https://doi.org/10.4324/9781003291909

Comments are closed.