الصراع بين واقعية ابن تيمية ومثالّية سيد قطب
الدكتور سعود الشرفات
تعتمد هذه المقاربة -التي تحتمل الصواب والخطأ- أدوات التحليل السياسية ونظرية العلاقات الدولية وليست تراثية أو فقهية، وان كانت تستخدم أدبيتها في عملية التحليل السياسي .
أعتقد أن جميع الحركات الاسلاموية التي تنسب الى السلفية هي حركات تجريبية لسيرورة “السلفية الملتوية” منذ أن نظَّر لها ابن تيمية( 661 هـ – 728هـ/1263م – 1328م) ؛ معيداً إياها الى عصر الرسول (ص) والخلفاء الراشدين.
واقصد بالسلفية التجريبية أن جميع الحركات السلفية بكافة أشكالها الملتوية منذ ابن تيمية حتى العصر الحديث؛ هي تجريب لمقاربات مختلفة لكيفية أعادة عصر الرسول والخلفاء الراشدين والخلافة الراشدة.
واقصد بالسلفية الملتوية جميع التجليات والتغيرات التي مرت بها الحركات السلفية منذ ابن تيمية حتى الآن.
وكما أن هناك إسلام واحد فقط؛ كذلك ليس هناك إلا سلفية واحدة، تجدد أشكالها وألوانها وأدواتها وأساليبها بشكلٍ ملتوي يصعب تلمسه احياناً؛ لكن الهدف واحد وهو المراوحة في الدعوة الى “العَود الأبدي”؛ الى فترة النقاء والطهورّية الذي تجلى حسب ابن تيمية ومن جاء بعده حتى أبو بكر البغدادي بعصر الرسول(ص) والخلفاء الراشدين.
ولقد كانت أدبيات ابن تيمية ،وأبو الأعلى المودودي ،وأبو الحسن الندوي ، وسيد قطب(السلفية الحنبلية ) تحديداً بأجماع الكثير من الباحثين والخبراء ورجال الدين المسلمين، هي القاعدة التأسيسية والذخيرة الفكرية الجماعات السلفية المقاتلة والجماعات الإرهابية النشطة اليوم سواء عن طريق العنف الجماعي المنظم الذي اخذ شكل الدولة بعد عام 2014م بعد إعلان خلافة داعش في سوريا والعراق ،أو عن طريق نشاط العمل الفردي من خلال إرهاب “الذئاب المنفردة”.
وأعتقد بأن المقاربة السياسية للتطرف الديني المُفضي الى الإرهاب المعاصر الذي ينسب الى الجماعات الاسلاموية السلفيّة المقاتلة هو أن الإرهاب العالمي المعاصر عبر خلال الكثير من التغيرات والتحولات الواسعة والعميقة في البنية والسلوك حتى تجذّر الى أن اصبح اليوم أداة من أدوات تنفيذ وتحقيق الأهداف السياسية بطريقة أوسع وأعمق واكثر من أي وقت مضى، مستفيداً من تجارب اسلاموية وغير إسلامية تاريخية بداية من حركات الخوارج الى الإسماعيلية –النزارية (الحشاشين) الى الجماعات والمنظمات الإرهابية العالمية الثورية واليسارية والقومية خاصة في الأساليب والتكتيكات.
هذه التحولات ساهمت في تسريعها سيرورة العولمة، خاصة آلياتها التكنولوجية المحايدة حيث استفاد منها الإرهابين واستخدموها بطريقة اكثر تعقيدا ورعبا من إرهاب الأطراف الفاعلة من الدول حتى أصبحت هذه النسخة المتوحشة هي التصور الغالب خاصة بعد أن اقتنع الكثيرون ، واعتقد آخرين أن إقامة الخلافة الإسلامية ممكن الحصول بعد أن سيطر تنظيم داعش على مساحة من ارض اكبر من مساحة بريطانيا. قبل أن يتلاشى هذا الحلم –مؤقتاً- بعد قضاء قوات التحالف الدولي على التنظيم في أخر معاقله في قرية الباغوز في اذار-2019م.
السلفية الملتوية والصراع بين الواقعية والمثالية
تبدو لي مقاربات السلفية تاريخياً خليطاً من النظريات الواقعية كما عند بن تيمية والمثالية عند قطب. مع التأكيد بأن هذا بحث بحاجة الى دراسة وتحليل أعمق.
– واقعية ابن تيمية
تعتبر الدولة /الأمة، والقوة (العسكرية والاقتصادية ) من أهم فرضيات النظرية الواقعية خاصة الكلاسيكية ،ولا زالت الدولة كوحدة تحليل لحراك المجتمع الدولي وتغيراته هي الأكثر قبولاً في نظريات العلاقات الدولية المعاصرة رغم كل ما أصاب الدولة من اهتراءات بسبب سيرورة العولمة .
ومن المثير أن هذه الفرضيات تكاد أن تكون أساس كل منتج ابن تيمية في مجال التنظير السياسي إذا نظرنا اليه من خلال النظريات والمفاهيم المعاصرة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية والعالمية وبحثناه من منظور كلانّي.
ولعل هذا ما أكده الباحث المصري الدكتور هاني نسيرة في كتابه متاهة الحاكمية أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الأولى 2015م ، حينما أشار –تحديداً- الى أن أولويات ابن تيمية كانت أولوية الأمة(الدولة ) على الإمامة(نظام الحكم) ،وأهمية الشوكة(القوة ) في الحكم.
وعلى الرغم من أن نسيرة يدعي بأن السلفية الجهادية ابتسرت فتاوى ابن تيمية التاريخية مثل فتوى التترس وفتوى ماردين أو التتار عن سياقاتها وتجاهلت محل الفتوى وخصوصيته التاريخية والثقافية والاجتماعية، أو تحقيق مسألتها تاريخيا، علماً بأن “الجماعة الإسلامية” تراجعت عن هذه الفتوى في المراجعات التي قامت بها الجماعة أواخر التسعينيات.
إلا أنني أعتقد أن فتاوى بن تيمة المثيرة للجدل خاصة في “التترس”، وفتوى “ماردين والتتار” و”التحريق” -حتى في شكلها غير المبتسر أو المحرف هذا أن تم تأكيده – كلها أقرب الى فرضيات والممارسات العملية للنظرية الواقعية .
ولقد أكد الباحث ناجح إبراهيم أحد القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية في مصر في كتابه “تفجيرات الرياض.. الآثار والأحكام” بأن فتوى التترس كانت المرجع الذي استندت عليه الكثير من التنظيرات اللاحقة للتترس والتوسيع الذي شهده استخدام هذا المفهوم.
ومثال على ذلك أن بيان الجبهة الإسلامية لمحاربة الصليبيين واليهود الذي صدر عام 1998م ،الذي كان يتزعمه أسامة بن لادن احتوى على جملة مسوغات فقهية للعمل العسكري، كان من أهمها، جواز قتل اليهود والنصارى عسكريين ومدنيين بجميع الفئات مستدلين بمسألة التترس.
مثالية سيد قطب
أعتقد بأن قطب بدأ سرديته الفكرية ،ومقاربته الفكرية والسياسية واقعياً ؛لكنه انتهى من حيث انتهى أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي مثالياً وقريباً من البنائية ، بالإشارة الضمنّية الى:
1- الأمة/ الدولة كوحدة تحليل في النظام الدولي.
2- “فوضى النظام الدولي.”
3- محددات القوة في النظرية الواقعية مثل: القوة المادية والاقتصادية والعسكرية.
4- دور القيم الكونّية والإنسانية في النظام الدولي.
لقد تبنت الجماعات السلفية التكفيرية القتالية مفاهيم قطب للمجتمع الجاهلي ، والحاكمية الإلهية العليا وإعلان ربوبية الله وحده للعالمين، والثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها. وتكفير الديمقراطيات والمجالس النيابية، وهو ما يقابل فرضيات الواقعية السياسية التقليدية- تقريباً- حول أهمية القوة عند الدولة/الأمة، وفوضى النظام الدولي، والعون الذاتي وعدم أهمية الأطراف الفاعلة من غير الدول خاصة مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات والأحزاب والتنظيمات السياسية.
وهو ما فتح في النهاية باب تشريع القتال واستخدام الإرهاب والعنف داخل المجتمعات الإسلامية وخارجها استنادا لمفهوم واحد فقط من أدوات النظرية الواقعية وهو “القوة” /الجهاد.
لكنه انتهى الى “المثالية” أو” البنائية” التي تركز على أهمية القيم في النظام الدولي ،خاصة عندما ادعى بأن “النظام العالمي” أو الغربي انتهى دوره ، بحجة انه افلس مادياً واقتصادياً وعسكرياً، ولم يعد يملك رصيداً كافياً من القيم الكونية يمكنه من القيادة.
وإزاء هذا الوضع تصوّر قطب بأن الاسلام المحمّل بالقيم العالمية هو البديل؛ كما يحاجج في كتابه “معالم على الطريق”.
يُذكّرنا ابن تيمية وقطب في حنينهما وتوقهما ودعوتهما الى إعادة الأمة الإسلامية(الدولة ) الى حكم الشريعة الذي انقطع مع الخلفاء الراشدين بدعوات “العود الأبدي” – التي نظّرَّ لها الكثير من علماء الأديان المقارنة وعلى راسهم مارسيا الياد- الى عصر طهوري نقي موجود في كل الحضارات المحورية(اليهودية والمسيحية والإسلام) والحضارات البائدة من الفرعونية إلى السومرية الى الإغريقية.
هذا التوق والحنين الذي يزدهر في أوقات الضعف الشديد ،والضيق والعجز والشعور بالاغتراب، وحالة الشعور التي تصيب الأفراد والمجتمعات والدول عبر التاريخ بأنها أصبحت عالة على العالم. لكن اكثر من يشعر بها هم اكثر البشر ذكاء وخطراً، وعبقرية ،وحساسية، ورقة، ونرجسية.
- سبق أن نشر هذا المقال في صحيفة حفريات الالكترونية في مصر .