فرنسا والإسلامية والإخوان المسلمين

0


د. خيري عمر

باحث في النظم السياسية، عمل أستاذاً مساعداً في جامعة صقريا-تركيا. حصل على دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وتَخصّص في قضايا الأحزاب والحركات الاجتماعية.


بعد ما يقرب من خمس سنوات، انتهى “مجلس الدفاع والأمن الوطني” من مراجعة تأثير “الإسلام السياسي” على التكامل الوطني، وجاء صدور النسخة المختصرة تحت عنوان “الإخوان المسلمون والإسلام السياسي في فرنسا”، نتاج مراحل مختلفة من المقترحات والمناقشات، ليثير الجدل حول نطاق القلق الفرنسي وحقيقة تهديد الهوية في ظل تنافر العلمانية والشمولية الإسلامية، وهنا، تبدو أهمية تناول سياقات إعداد التقرير الإدارية والفكرية، بحيث يكشف عن أهداف السياسة الفرنسية وقراءتها لشبكات الإسلاميين.
القلق الفرنسي المستمر
على مدى السنوات الماضية، سعت الحكومة الفرنسية لتطوير سياسة التعامل مع الإسلام السياسي لفهم طبيعة التهديد وحماية السياسات الاجتماعية، وسار منهج الدولة على دراسة العلاقة ما بين الإخوان المسلمين وكيانات النشاط الديني، التعليمي والاجتماعي المنتشرة في البلديات. وشكلت مسألة تهديد الهوية جوهر اهتمام جهات الدولة، حيث خططت لعملية مؤسسية لمكافحة تسلل الإخوان. بدأت مرحلتها الأولى بإطلاق تعديلات هيكلية لتضييق مساحات اتصال الإسلاميين مع الجالية المسلمة.
وخلال عامي 2021 و2022، صاغت الحكومة تشريعات لـ”تعزيز قيم الجمهورية”، كان قوامها توسيع مراقبة وسائط الاتصال عبر الانترنت. ففي 5 أبريل 2021، أطلقت صلاحية الاستخبارات الفرنسية في تعقب الإرهابيين المحتملين. ولاحقاً، أسست ” منتدى الإسلام في فرنسا (FORIF)” في 5 فبراير 2022، ليكون وسيطاً بين الدولة ومنظمات المجتمع المسلم لتحييد تغلغل الإسلاميين.
وقد شكل انعقاد اجتماع “مجلس الدفاع ” في يناير/كانون الثاني 2024، ليكون نقطة انطلاق لتسريع معالجة “الانفصالية” وفق تكليف رئيس الجمهورية في 17 أبريل/نيسان 2024، لوزراء الداخلية والخارجية والقوات المسلحة، بالإضافة لكبار المسؤولين بإجراء تقييم حول حركة الإخوان المسلمين والإسلام السياسي في فرنسا.
وبالنظر لتركيبة اللجنة ومهمتها، فمن الواضح أن التقرير يتعلق بحماية السياسة العامة من تسلل الاسلامية، فبجانب الطبيعة البيروقراطية لمسار التقرير، يعكس إسناده لمجلس الأمن القومي إطاراً لتحييد النزعة الحزبية للمشاركين وإدراكاً لمستوى التهديد والحاجة لتقييم تأثير الإسلام السياسي على التماسك الوطني. في العمل السياسي، لا تتوفر الصرامة على هذا النحو، لكن تقارب قراءة كل التيارات والأحزاب لخطر الأسلمة.
مسار البحث عن تعريف المواجهة
وفقاً لخطاب رئيس الجمهورية، إيمانويل ماكرون، بدأت عملية فحص حالة الإسلام السياسي، حيث جرى الإعداد لبرنامج مسح لتوثيق واقع التجربة الفرنسية عبر فحص حالات مماثلة في أربع دول أوروبية، بجانب إجراء مقابلات مع أكثر من 200 شخصاً ذوي خبرة مؤسسية وعلمية، وذلك لرفع مستوى الوعي بمخاطر صعوده لدى الجماهير. ولذلك، سعت اللجنة لصياغة هدفين، تمثل الأول في وصف تهديد الإخوان المسلمين ومدى ارتباطه بالأبعاد الانفصالية؛ الداخلية وعلى النطاقين الأوربي وفي العالم العربي والإسلامي، أما الثاني، فقد انصب على إعداد مقترحات لمكافحة التسلل لنطاقات صنع القرار المحلي والوطني، وكذلك داخل المؤسسات الأوروبية.
وكما كل التقارير الرسمية، أشار الموقف الفرنسي لصعوبة تعريف حركة “الإخوان المسلمون”، وخصوصاً ما يرتبط منه بتعريف المنتمين للحركة في ظل تجنب الجماعة الإفصاح عن خريطة عضويتها وطبيعة العلاقة بين الشبكات التنظيمية والروابط الإسلامية، حيث تتحرك الجماعة وسط دائرة منظمات لا تجمعها صلة مباشرة سوى عضوية أفراد من الإخوان، ولذلك كان الاتجاه للاستدلال، باتباع قراءة سببية للسلوك التنظيمي والمحتوى الفكري تجاه مسلمي فرنسا.
ومع إشارة التقرير لغياب وثائق لخطط الجماعة، شكل الاعتماد على المصادر الثانوية المحتوى الأساسي للتقرير، فقد اهتمت اللجنة بمسح التجارب خارج فرنسا وتجميع الأبحاث العلمية، بجانب الملاحظات الميدانية عن سلوك الجمعيات والأفراد. وبجانب اتجاه التقرير لإجراء مسح على مستوى أوروبا والحالات في الشرق الأوسط. أوروبياً، ظهر الاهتمام بخبرة ألمانيا والنمسا في التعامل حركة الإخوان. ومن بين العديد من الدراسات، أشار تحليل ” الإسلام السياسي والمجتمع” الصادر عن “مركز توثيق الإسلام السياسي ( DPI ) في 2022 لترابط أنشطة شبكات الإسلاميين على مستوى الشرق الأوسط وأوروبا.
وبالاستناد لمساهمات الباحثين ومشكلات الإخوان في الشرق الأوسط، سعى التقرير لتطوير مشروع مكافحة الأبعاد النظرية والتطبيقية للانفصالية الإسلامية، 2 أكتوبر 2020، المناهضة للجمهورية تسعى فيه لتشكيل مجتمع مضاد، يكون غير متناسقة مع المبادئ العامة للدولة من خلال بدائل التعليم المدرسي للأطفال، وأنشطة التمييز بين المرأة والرجل، والكرامة الإنسانية.
وعلى مستوى المنطقة العربية اعتبر التقرير واقع الجماعة مصدراً مهماً للتقييم، وخصوصاً ما يرتبط بمواقفها من الدولة وأنماط عملها السرية والعلنية داخل المؤسسات الرسمية وفي المجتمع المدني، حيث تساعد التغيرات التي شهدها تداخل فروع الجماعة في أوروبا مع الشرق الأوسط على فهم سياقات الإخوان في البيئات المختلفة. فخلال مرحلة الربيع، انكشفت الروابط التنظيمية عبر فرنسا والعرب، كما كشف تحركات المعارضات العربية خريطة الانتشار في أوروبا. وبتضافر هذه المستويات، تشكلت مسارات تسهيل الوصول والإقامة، وتكون المنظمات الجديدة ضمن شبكة واحدة داعمة لمُضاعف التأثير، فضلاً عن الاعتماد المتبادل فيما بين فروعها لتوظيف الميزات النسبية في نقل الموارد عبر الأماكن المختلفة.
وبغض النظر عن مدى وضوح منهاجية عمل اللجنة، فقد أنجزت أعمالها في يوليو/ تموز 2024 وخلصت للنتائج، وصفت فيها الإخوان بالمراوغة عندما يتظاهرون باحترام للقانون، لكنهم على الحقيقة يعملون على استبدال تقاليد الجمهورية لدى المجتمع الوطني بأشكال جديدة من الولاء السياسي والاجتماعي، ولهذا، وضع مجلس الدفاع والأمن القومي، 21 مايو/أيار 2025، ملامح خطة عمل لتوعية الجماهير وصناع القرار.

المكافحة الفرنسية
وفي ظل تتابع مراحل بناء السياسة الفرنسية تجاه “الإسلامية”، اقترحت الدولة إطاراً فكرياً لأدبيات المكافحة، ظهرت فيه مصطلحات الانفصالية، التغلغل والانعزالية، لتكون مرادفات للتعبير عن القلق من سعي الإخوان لبناء الحيز الاجتماعي المُخالف للنظام العام بين مسلمي فرنسا لإنشاء مجتمع مواز، ولذلك، تتوسع الحكومة في مراقبة نشاط الإخوان كسياسة وقائية لمنع تعدد المصادر الأيديولوجية فيما بين 9% من إجمالي السكان، حيث تمثل الحيوية السكانية، لارتفاع الخصوبة والهجرة، باعث اهتمام الحكومة بمنع فرص ثنائية التصور والانتماء.
وفي هذا السياق، قرأ التقرير مفهوم التغلغل كسلوك اجتماعي، تنفصل فيه الجماعات والأفراد طوعياً عن المجتمع واختراق قواعده العامة تمهيداً لاستبدالها بقوانين وأعراف أو ممارسات تتعارض مع مبادئ الجمهورية، فهو نوع من رفض النظام العام والتحول لصيغة مرادفة لأخونة الجاليات وعزلها عن المجتمع الفرنسي، لتتشكل كيانات ضد الاندماج مع القيم السائدة ومتطلعة لإنشاء دوائر نفوذ خارج القانون أو غير رسمية. لتظهر دلالة المفهوم في تحويل السيطرة الاجتماعية لأيديولوجيا إسلامية لإنماء الانتماءات الفرعي ما يمثل تهديداً للتلاحم الوطني.
ولهذا، استخدم التقرير صفتي التغلغل والطفيلية بمعنى متقارب لرسم آليات انتشار الجماعة في المؤسسات المدنية، حيث ظهر الاعتماد على وسيلتين؛ كانت الأولى فيما يُعرف بتسريب رأسمالها الاجتماعي داخل المؤسسات لتحويلها أيديولوجياً بعيداً عن الجمهورية واستبدالها بالمحتوى التكويني للجماعات الإسلامية المختلفة بالمخالفة للقواعد العامة. وتزايد تحدي الهوية مع توسع نشاط دعاة “الجيل الثاني” على الوسائط الافتراضية لنشر الفكر “المتطرف” في جانبيه الإخواني والسلفي. أما الثانية، فكانت في التحريك غير القانوني للأموال نحو دعم “الانفصالية” والتلاعب بالهوية.
لدى الحديث عن التغلغل والانفصالية، لا تُقدم محدودية أعداد الإخوان المسلمين تفسيراً لقلق الدولة من تغيير السمات الثقافية للمجتمع الأوروبي، لكنها معنية بمكافحة محاولات تكوين مجتمع مواز مخالف للنظام العام القائم. ولذلك، ينحصر اهتمام التشريعات بضبط نشاط الجمعيات داخل الاقليات المسلمة والمجتمع المهاجر، لمنع التداخل بين الديني و”الإسلامية”، وهنا، تعمل السرية والتغلغل على حصر المشكلة في نطاق الجمعيات والمشاركة الانتخابية المحدودة.
وتحت هذه الحالة، تنشغل الجماعة بربط الجمعيات بالهيكل التنظيمي عبر مسؤولين أو أعضاء، ليكون عمل المنظمات الاجتماعية ضمن أهدافها. شكلت هذه الدائرية أساس قلق الدولة من احتكار الجماعة للجالية المسلمة. وبالإضافة لذلك، تساهم تداعيات أزمات الإخوان المسلمين في الدول العربية، في زيادة طلبات اللجوء والإقامة في أوروبا الغربية، حيث تضاعفت الأعداد في بلدان بريطانيا وهولندا، فضلاً عن إيرلندا وألمانيا، لتعمل ضغطاً على سياسات الهوية والدمج الاجتماعي، وفي ذات الوقت تمثل دعماً مباشراً للمنظمات التابعة للجماعة.
من هذه الوجهة، تُركز فرنسا على مكافحة نشر الأيديولوجيا الإسلامية غير أنها تواجه صعوبات من جانبين؛ رسوخ ميراث العلمانية وشمولية منظور منظمات الإخوان للإسلام، وهي بيئة مناسبة لنمو الخلافات الدينية التي تصاحب صدور التشريعات المُنظمة لتقنين المساجد ومراقبة الجمعيات، حيث يتم تصويرها اضطهاداً دينياً، فيما تقدمها السياسة الأوروبية تقييداً نشر أيديولوجيا الإسلاميين بين الفئات والجماهير.
في هذا السياق، يتضح عزم الحكومة الفرنسية على التحرك ضد التهديد القائم نتيجة أزمة الثقة في قابلية إسلاميِّ الإخوان للتعايش مع العلمانية الفرنسية. ووفق هذا الاستدلال، صَنَّف التقرير قائمة من الكيانات التي تُعد امتدادا تنظيمياً وفكرياً للإخوان، حيث أشار لجمعية مسلمي فرنسا، ومجمع الكِندي في مدينة ليون، ومدرسة ابن خلدون في مرسيليا، وجمعية الإغاثة الإسلامية، إلى جانب منتدى المنظمات الشبابية والطلابية الإسلامية الأوروبية وغيرها.
رد إخوان أوروبا الغاضب
وكنتاج لهذه العملية، نشرت وزارة الداخلية الملامح العامة لتقرير تحت عنوان “تسلل جماعة الإخوان المسلمين إلى المجتمع الفرنسي”، وبهذا المعنى، ربطت السياسة الفرنسية ما بين مسؤولية الإخوان وانشر “الإسلام السياسي” في أوساط مسلمي فرنسا وأوروبا بغرض تغيير قيمه بعيداً عن رقابة الدولة. وبعد يومين: كان ردٍ رابطة حقوق الإنسان (LDH) ، 23 مايو/ آيار2025، حاداً، وصفت فيه توجيه ” مجلس الدفاع” بفحص نشاط الإخوان المسلمين اهتماماً بمناقشة “أوهام” رائجة في الإعلام من شأنها دفع فرنسا نحو الانقسام والعنصرية. وبينما انضبط بيان في الحديث عن غياب معايير الإسلاميين بالانفصالية والتسلل، بدى عليه التمرد والانفلات عندما نظر فحص التقرير للإخوان المسلمين نوعاً من الهوس والتضليل والمؤامرة على المقيمين لفترة طويلة، بشكل يعكس مدى رفض الخضوع لمراجعة الدولة.
لم يختف رد “مجلس مسلمي أوروبا”، 25 مايو / آيار عن موقف الرابطة، فرغم محاولته تقديم صورة لمساهمة مسلمي أوروبا في الاندماج والاستقرار في المجتمع الأوروبي، فإنه لا يقدم رداً قانونياً يسد فجوة القلق لدى الحكومة الفرنسية، بل ركز على الطابع السياسي عندما أشار لأمرين؛ أن استناد فرنسا لمراكز تفكير أمنية لا تراعي المعايير العلمية، سوف يرسخ المعالجات الأمنية بديلاً عن الاجتماعية او السياسية، ما يعتبر إساءة للجمعيات القانونية، كما يعكس الثاني حقيقة القلق من الخضوع للقانون، سواء بالتشكيك في دقة المعلومات حول عضوية التنظيم والخلط بين جماعة الإخوان وملياري مسلم وتقديمها حِزمة واحدة على فهم متماثل للإسلام.
على أية حال، فإنه على الرغم من تصعيد السياسة الفرنسية، فإن الحديث عن صعوبات وضع تعريف عَلَني لـ”الإخوانية” يعني مفاضلة الحكومة ما بين رغبتها في مكافحة الجماعة والقبول بوجودها. ولذلك، يمكن قراءة إشارة التقرير الفرنسي بنقص تعريف حركة “الإخوان المسلمون” كمفاوضة للتعامل وفق البيانات والشبكات المنتشرة عبر العالم، وهنا، يرتب الاحتجاج بهلامية شبكات الجماعة لتوسيع المنظور الأمني للقوانين والرقابة، ليس بهدف القضاء عليها، بل تفضيلاً للاحتواء باعتبارها من المكونات المألوفة للفاعلين في النظام الدولي.


About Author

Saud Al-Sharafat ,Phd https://orcid.org/0000-0003-3748-9359 Dr. Al-Sharafat is a Brigadier-General (Ret), Jordanian General Intelligence Directorate (GID). Member of the National Policy Council (NPC), Jordan, 2012-2015. The founder and director of the Shorufat Center for Globalization and Terrorism Studies, Amman. His research interests focus on globalization, terrorism, Intelligence Analysis, Securitization, and Jordanian affairs. Among his publications: Haris al-nahir: istoriography al-irhab fi al-Urdunn khelall 1921-2020} {Arabic} {The River Guardian: the historiography of terrorism in Jordan during 1921-2020}, Ministry of Culture, Jordan, www.culture.gov.jo (2021). Jordan, (chapter)in the Handbook of Terrorism in the Middle East, Insurgency and Terrorism Series, Gunaratna, R. (Ed.), World Scientific Publishing, August 2022, 47-63 https://doi.org/10.1142/9789811256882_0003. Chapter” Securitization of the Coronavirus Crisis in Jordan, “Aslam, M.M., & Gunaratna, R. (Eds.). (2022). COVID-19 in South, West, and Southeast Asia: Risk and Response in the Early Phase (1st ed.). Routledge. https://doi.org/10.4324/9781003291909

Leave A Reply