
بين القانون والسيادة: الإخوان المسلمون في ميزان الدولة الأردنية
الدكتور سعود الشرفات
مدير مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والارهاب
في الوقت الذي يواجه فيه الأردن تحديات إقليمية متصاعدة وأوضاعاً داخلية دقيقة، تبقى بعض الملفات عالقة بين الحسابات السياسية والتردد في اتخاذ القرار، رغم أن مضامينها تمس الأمن الوطني بشكل مباشر. من بين هذه الملفات، تبرز جماعة الإخوان المسلمين وفرعها السياسي “حزب جبهة العمل الإسلامي” كحالة استثنائية تتطلب معالجة حاسمة ونهائية. فاستمرار هذه الجماعة في العمل العلني، رغم المخالفات المتكررة والتصريحات التي تشكك بسيادة الدولة أو تتجاوز القانون الأردني باسم “دعم المقاومة”، يمثل ثغرة أمنية وسياسية يجب أن تُغلق، ليس فقط حفاظًا على هيبة الدولة، بل وقبل ذلك حفاظًا على استقرارها الداخلي ووحدتها الوطنية.
تاريخ جماعة الإخوان في الأردن مرتبط عضوياً بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وهو تنظيم معروف برؤيته العابرة للحدود، وبموقفه الإيديولوجي الذي يضع “الولاء للأمة” و” البيعة “فوق الولاء للدولة الوطنية. هذا التوجه يتناقض جذريًا مع فكرة الدولة الحديثة التي تقوم على المواطنة والقانون والمؤسسات التي انجزها الأردن خلال المئة سنة الماضية. وعليه، فإن الجماعة لم تُظهر في خطابها أو ممارساتها، خصوصًا في العقدين الأخيرين، التزامًا صريحًا بمبدأ السيادة الأردنية، بل ظلت تتعامل مع الأردن كـ”ساحة” ضمن مشروع أوسع، تسعى فيه الجماعة لتحقيق “التمكين” لا الشراكة من خلال ممارسات ملتوية من التقية السياسية. هذا ما يفسر ازدواجية خطابها، إذ تتبنى علنًا شعارات تبدو وطنية، لكنها في المضمون تعبّر عن موقف أيديولوجي يتجاوز حدود الدولة.
لا يمكن إنكار أن الجماعة تتبنى قضية تحرير فلسطين ودعم غزة حالياً كعنوان دائم لتحركها الشعبي والإعلامي. لكن هذا التبني لم يأتِ يومًا ضمن إطار تنسيقي مع الدولة الأردنية، بل اتخذ شكلًا مستقلاً وأحيانًا موازياً، ما خلق نوعًا من التنافس غير المباشر على من يمتلك “شرعية تمثيل القضية”. وللأسف، فإن بعض أنشطة الجماعة في هذا السياق خرجت عن طابع الدعم الرمزي أو التضامن الإنساني، وتحولت إلى مظاهرات تحريضية، وجمع تبرعات خارج الأطر الرسمية، وتنظيم فعاليات تتحدى توجه الدولة وتضعها في موقف محرج داخليًا وخارجيًا. والأسوأ من ذلك، أن شعار “دعم المقاومة” تحوّل إلى حصان طروادة دخلت من خلاله منظمات وجماعات فلسطينية مسلحة في الماضي، كانت سببًا رئيسيًا في الأحداث المأساوية بين عامي 1970 و1972، حين تم تهديد وجود الدولة الأردنية ذاته. ومن الخطير جدًا إعادة تكرار هذا النموذج بأي صيغة أو تحت أي شعار.
ومن المغالطات التي يجب تفكيكها تلك الخرافة التي ما يزال يرددها قادة الجماعة وبعض المحللين السطحيين أن جماعة الإخوان “وقفت مع النظام في عام 1957” إبان أزمة حلّ الأحزاب ومحاولة الانقلاب العسكري. هذه رواية لم تعد صالحة للتداول دون تمحيص. فالحقيقة التاريخية أن النظام الهاشمي هو من احتضن وحمى الجماعة في تلك المرحلة، وفتح لها أبواب التعليم والعمل والدعوة، بعد أن كانت مطاردة وملاحقة من النظامين المصري والسوري. فالنظام لم يكن مدينًا لها، بل العكس هو الصحيح: الإخوان مدينون للشرعية الهاشمية التي حمتهم ومنحتهم فضاءً لم يُمنح لهم في أي بلد عربي آخر. اختزال العلاقة في لحظة “ولاء سياسي” هو تزييف متعمد لوقائع أعقد، هدفه تضليل الرأي العام وتبرير بقاء الجماعة كفاعل شرعي رغم تجاوزاتها المتكررة.
أما حزب جبهة العمل الإسلامي، فإنه وإن حمل صفة قانونية، إلا أن الواقع يكشف أنه ليس أكثر من غطاء سياسي للجماعة. هذا الحزب لم يتصرف ككيان مدني مستقل، بل ظل خاضعًا بالكامل لرؤية الجماعة وقراراتها. وقد استخدم حضوره النيابي والحزبي لتوسيع نفوذ الجماعة، وليس لتعزيز المسار الديمقراطي في البلاد. فخطابه لا يخلو من التلميح إلى احتكار التمثيل الديني، ومن استخدام لغة دعوية في ساحات يُفترض أن تكون سياسية بحتة. الأدهى من ذلك أن مواقفه من القضايا الوطنية دائمًا ما تتقاطع مع حسابات الجماعة الإقليمية، خصوصًا حين يتعلق الأمر بالعلاقة مع حركات الإسلام السياسي في الخارج، أو بمواقف الدولة من ملفات الأمن القومي.
وبينما كان بعض صناع القرار في العقود الماضية يرون أن وجود الجماعة قد يساعد على “ضبط الشارع” ومنع تطرفه أو انزلاقه، فإن هذا الرهان لم يعد صالحًا اليوم. في ظل التغيرات التي يشهدها النظام الدولي، وفي عصر وسائل التواصل والوعي المتفجر، لا يمكن لأي جهة تنظيمية ما دون الدولة أن تضبط انفلات الشارع إذا خرج عن السيطرة. الجماهير في لحظة الانفجار لا تتحرك وفق حسابات التنظيمات، بل تسير بمنطق الغوغاء كما وصف غوستاف لوبون، المفكر الفرنسي الشهير في كتابه “سيكولوجية الجماهير”. وأي تعويل على قدرة الجماعة في احتواء الشارع إنما هو وهم خطير، لأن الشارع إذا تحرك فلن يميز بين الدولة والجماعة، ولن يصغي لمن كانوا جزءًا من بنية التواطؤ أو الغموض السياسي.
من الناحية القانونية، فإن الوضع لم يعد يحتمل التجاهل. ففي عام 2020، أصدرت محكمة التمييز الأردنية، وهي أعلى هيئة قضائية في المملكة، قرارًا نهائيًا بحل جماعة الإخوان المسلمين لعدم تصويب أوضاعها القانونية. ومنذ ذلك الحين، تواصل الجماعة أنشطتها العلنية دون مبالاة بهذا الحكم، في تحدٍ سافر لسيادة القانون وهيبة القضاء. إن التساهل في تنفيذ هذا القرار يفتح الباب أمام فوضى قانونية خطيرة، ويبعث برسالة خاطئة بأن الالتفاف على الدولة ممكن ومباح، وهو ما ينسحب بدوره على حزب جبهة العمل الإسلامي الذي لا يمكن فصله عمليًا عن الجماعة المحلولة.
إن الدولة التي تسعى إلى تحصين وحدتها الوطنية، وترسيخ مؤسساتها، لا يمكن أن تتسامح مع كيان يعمل خارج منطق الدولة. فحظر جماعة الإخوان المسلمين وحل حزب جبهة العمل الإسلامي لم يعد ترفًا سياسيًا، بل ضرورة أمنية وقانونية وتاريخية. لا أحد فوق القانون، ولا مكان لمن لا يعترف بشرعية الدولة وسلطتها.
إن استمرار وجود جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، رغم صدور قرار قضائي بحلها ثم حظرها، ووجود حزب جبهة العمل الإسلامي كواجهة سياسية تابعة لها، لم يعد مجرد حالة سياسية قابلة للنقاش، بل يمثل خللًا بنيويًا في هيبة الدولة وسيادة القانون. إن أي تهاون في التعامل مع هذا الملف لن يُفهم إلا على أنه ضعف في الإرادة، وتردد في صون الاستقرار الوطني. فالدولة التي لا تفرض احترام قوانينها على الجميع دون استثناء، تفتح الباب للفوضى المقنّعة باسم السياسة أو الدين أو “دعم المقاومة”.
خلاصة القول؛ لقد أثبتت التجربة التاريخية في الأردن أن الجماعة لم تكن حليفًا للدولة، بل مستفيدة من تسامحها، ومتمردة على منطق السيادة كلما تعارض مع أهدافها الأيديولوجية. وأثبت الواقع المعاصر أن الجماهير لا يمكن ضبطها عبر التنظيمات والجماعات ما دون الدولة، بل بحزم الدولة ومؤسساتها. من هنا، فإن الخيار الأفضل الذي يحمي الأردن من الخلل الداخلي والانزلاق إلى سيناريوهات مدمّرة، هو اتخاذ قرار وطني واضح وحاسم بحظر الجماعة نهائيًا، وحل حزبها السياسي، ووضع حدّ نهائي لحالة الالتباس التي تسمح لهذا الكيان بالعمل وكأنه فوق الدولة.
الحفاظ على الأمن الوطني يبدأ بإغلاق الثغرات، وهذه الجماعة هي الثغرة الأخطر.