بشار جرار – خاص لمركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والارهاب من واشنطن
كانت أمسية رمضانية أوسعنا فيها المعزب – وهو من “النشامى” – مما لذ وطاب دون رحمة حتى أنسانا هواتفنا النقالة بعيدا عن حبلنا السري! رن هاتفي من بعيد، فسارعت إلى الطلب من زوجتي القريبة منه بأن تردّ إن كان الطالب من توقعت، ففعلت بعد إدخال الرقم السري السداسي، وانقضت المكالمة الموجزة على خير دون أن يفهم أحد من الحضور فحواها حتى داهمني الجميع وبنفس رجل واحد: معقول؟! قالوا مازحين ألديك هاتف آخر للخاص؟! أجبت على الفور: لا خاص بين الأمين والمؤتمن.. ضحكنا مصدقين ومشككين لكن ختامها كان مسكا: قطائف عصافيري!
ما أردته من هذه الطرفة وأظنها شائعة، أن أكثر الناس سعادة هم أكثرهم راحة وأخفهم حملا. والتكتم في غير مكانه ثقيل ومريب إن كان بين من يفترض الثقة في علاقتهما. صحيح أن الثقة المثالية هذه لا تقف عن الرقم السري للهاتف وإنما تشمل الحاسوب والخزنة الخاصة العلنية والمخفية بما في صندوق تأمين الأسلحة الفردية. قرار الثقة هنا ليس محصورا بالتعرف على مكالمات أجريتها أو تلقيتها أو تراسلا نصيا وإنما حسابات بنكية وبوالص تأمين من الأمراض والبطالة والوفاة، وقرار يشمل الأسلحة وعتادها. هنا الثقة تعني الفارق بين الحياة أو الموت. ليس فقط حياتي وإنما حياة أسرتي ومعارفي “الثقات”.
وأنسب الفضل كله في هذه الطبع الحميد إلى صاحب الفضل كله أبي لروحه السلام ولذكراه العطرة الخلود. كان متطرفا حادا في ثلاثة قضايا: الصدق، الأمانة والنظافة (بمعانيها المتكاملة). كان جريئا إلى حد الصدام في قول وفعل ما يؤمن به، دونما ترهيب من قطيع أو رهاب من وحشة الطريق. كلمة السر في ذلك كله: نقاء السريرة يتطلب ألا تخاف من كشف ما تخفيه.
لكن الحياة في سبعينيات القرن الماضي التي علمني فيها تلك الدروس ليست كالحياة الآن.
رغم ثبوت مقولة: مارس القيادة بضرب المثل بنفسك، إلا أن أبنائي وباسم الخصوصية لم يمنحوني كما أفعل أنا وأم عيالي فيما يخص تبادل الأرقام السرية. العلة هنا هي الخصوصية، خصوصية الشباب. لكن التريبة والرعاية تتطلب في زمننا معرفة امتلاك الوالدين لتلك الأرقام والمفاتيح للدخول بين الفينة والأخرى من باب الاطمئنان لا التلصص على هذا العالم المخيف الذي لا حمائية فيه على الإطلاق.
كنت ضيفا بالأمس على قناة تعتبر الأعلى مشاهدة في العالم العربي من قبل المحطات الأجنبية التي تبث بلغات عدة من ضمنها العربية. موضوعنا كان سعي واشنطن إلى حظر التطبيق الأكثر رواجا بين الشباب، تك توك تعبيرا عن قلق الولايات المتحدة من اختراق الصين الممنهج ومنذ سنوات للأمن السيبري الأميركي على المستويين الرسمي والأهلي. بحسب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر راي (يلفظ اسم العائلة على وزن شهر أيار بالإنجليزي)، فإن نصف قضايا التجسس على أميركا وبخاصة التكنولوجي والعلمي تقوم بها الصين، فيما اخترقت بكين حسابات نصف سكان الولايات المتحدة عبر مكتب إكوافاكس – أحد المكاتب الثلاثة المسؤولة في أميركا عن تقديم قراءات تقييمية للجدارة أو الموثوقية الائتمانية الخاصة بالأفراد والشركات فيما يعرف بالرقم الائتماني. ولتقريب خطورة تلك المسألة لثقافتنا في الشرق الأوسط فهذا الرقم لا يقل خطورة عن شهادة “حسن السير والسلوك” كونها تكشف عن سلوك الفرد في التعامل مع المال نقدا واقتراضا وحتى ادخارا.
قبل سنوات وفي أوج تفشي وباء داعش وظاهرة الذئاب المنفردة، تعالت الأصوات الأميركية – الرسمية والأهلية – المطالبة بتوخي الحذر فيما ينشر عبر منصات التواصل الاجتماعي حتى وإن بدت الأمور احتفالية تتعلق مثلا بحفلة شواء في الحديقة الخلفية بمناسبة عيد ميلاد. هناك من يترصد هذه الصور ويعمل على تحليلها واستخلاص ما يغفل عنه عامة الناس. في بعض الحالات تم التوصل إلى عنوان إقامة أسر عسكريين وأمنيين يخدمون في مواقع حساسة داخل البلاد أو خارجها. أي إشارة إلى موقع الحي، شكل البيت، إطلالته، الشارع، رقم السيارة وخاصة رمزها الخاص بالولاية أو ما يفيد بموقعها في مقاطعة ما، كل تلك ثغرات لا بد من التعامل معها بانضباط يشمل جميع أفراد الأسرة بمن فيها الأطفال الذي لا ينبغي أن يكون لهم أصلا أي نشاط أو صور على منصات التواصل الاجتماعي.
كما وأن تفشي ظاهرة إطلاق النار العشوائي والانتحار في بث مباشر على فيسبوك، وتلك جرائم ليست سياسية أو أيدولوجية بالضرورة، وغالبا ما تكون مرتبطة بأمراض نفسية أو عقلية ومعظمها جراء الإدمان على معاقرة الخمور أو تعاطي المخدرات. ثمة شركات كبرى وجامعات عريقة لم تتحرج من الإقرار بأنها تقوم بمراجعة السجل الخاص بمنصات التواصل الاجتماعي للمتقدمين بطلب العمل أو الدراسة. بمعنى أن حفلة طيش (بريئة أو غير بريئة) – أو قيادة مركبة على نحو أرعن – كفيل بالقضاء على مستقبل واعد لكفاءة علمية شابة.
هذه دعوة محب غيور أرسلها عبر هذا المحفل/المنبر الكريم لذوي الاختصاص بالتعامل بأقصى درجات الوعي مع أمننا السيبري الذي أسقط ورقة التوت عن الحدود والسدود. أولى الناس في خوض هذه المعركة الأم والأب فكل أجهزة الاستخبارات ومكافحة التجسس والقرصنة والإرهاب في المعمورة لن تتمكن من حماية سقف بيت أو بوابة منزل نوافذه مشرعة لمن هب ودب!