لا شكَّ أن جائحة كوفيد 19 تلك التي اجتاحت العالم على حين غرّة قد أثّرت كثيراً بسلسلة طويلة وكبيرة من مختلف انماط حياتناlife patterns، وربما غيرت وستغير من منظومتنا الثقافية Systems of culture عموما، فحتى سلوكاتنا اليومية المتواترة اصابتها هذه الجائحة، وغيرت وبدلت فيها كثيرا، فلم تعد الأنماط الحياتية كما كانت قبلها، وتأثر الناس جراء ذلك بأن اوجدوا عادات وسلوكات جديدة ربما ستصبح هذه انماط ثابتة مستقبلاً، فبداية من طرق استهلاكنا، وعلاقاتنا، وتفاعلاتنا الى أشياء قد تكون اكبر من ذلك؛ تمّ تحويرها، وتغييرها، واستبدالها احياناً، فلم يكن احدٌ يتوقع انه سيُحظر ببيته لأيام؛ فالعامل، والموظف، وحتى رب الأسرة، وحتى الأطفال، والعاطلون عن العمل تفاجأوا بل صُدموا بهذه الأمور التى جاءت بشكل فاجئ الجميع، وبتواتر مخيف، فلم يكن أيّ منا مستعد لهذه التغيرات المفاجئة، وأن الكثير من الناس لم يعتادوا على مثل هذه الامور التي شكلت ما يشبه الصدمة لهم.
لا أبالغ إن قلت أن كورونا اشبه بحرب قد ضربت المجتمعات، فالحرب تماماً تفعل ما تفعله كورونا الآن : قوانين طوارئ، ودفاع، حظر تجول، وإغلاق معظم المراكز والمؤسسات الحكومية الحيوية، واغلاق للمدارس والجامعات، وإغلاق الحدود والمنافذ الجوية، والبرية، والبحرية خوفاً من تسلل ڤايروس عدو الى احد هذه المؤسسات وإعلان حالة من الذُعر، ومن الممكن إبادة أرواح كثيرة، بل وإحداث ثغرة من جهة معينة لتسلل باقي جيوش ذلك الڤايروس الفتّاك.
وبذلك فإن هذا الڤايروس قد احدث خلخلة في الأبنية الاجتماعيةSocial structures، وربما فتك ببعض الأنساق الاجتماعية Social systems داخلها، بل وعبث حتى بوظائفها Functionsالتي كانت تؤديها، ومن هنا نلحظ مدى الارتباك الذي اصاب عمل الكثير من الانظمة داخل المجتمعات، وكشف عن مدى هشاشة بعض هذه الانظمة الاجتماعية على شتى المستويات : الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، وحتى على مستوى النسق العائلي، والفردي.
لقد ضرب هذا الڤايروس كل من البناء الفوقي Supra structure والبناء التحتي infra structure للمجتمع، وكثيرا ما شعرنا بالضعف التام لهذه الأبنية، فالإقتصاد بدى وكأنه يترنح بفعل الحظر والتعطل، وتوقف معظم مرافق الدول الحيوية وشلّها بشكلٍ تام، ومما زاد من هذا التعطل المفاجىء للحياة ومصالح الناس، والدولة، شَللٌ مُرافِق قد ضرب حياة الناس الروحية والمعنوية، فأُغلقت المساجد، والكنائس ودور العبادة، وتعطلت كل الانشطة الثقافية، والترفيهية، واغلقت المسارح، والصالات، والسينامات، ودور العرض، والغيت آلاف من الفعاليات التى كان مزمع اقامتها قبل ان تحل كارثة كورونا؛ وبذلك فإن معظم الناس قد اصيبوا بنكسات وصدمات على المستويين المادي والروحي، وقد تُركوا نهباً لتكهنات المحللين، ونشرات الأخبار، والتسمّر أمام شاشات التلفزة لعد وإحصاء من اصيب، ومن تعافى، ومن فارق الحياة بفعل هذا الڤايروس، وتقطعت السبل في الناس، فلم يعد الخروج من المنزل فعلاً روتينياً، ولم تعد تفاعلاتنا، وعلاقاتنا شيء عادي ومسموح، وبذا فإن الغالبية من الناس أصيبوا بملل، وصدمة، تبعها ضجرٌ قاتل، وربما كان ذلك اشد وطأة في بعض المجتمعات الغربية تلك التي تعاني من تآكل الجماعات المرجعية والترابط الأسري والحميمية بين الأفراد والجماعات.
وربما يشبه هذا ما عالجه عالم الاجتماع الفرنسي الشهير إميل دوركهايم Emiel Dorkhaim خاصة في دراسته الكلاسيكية حول الإنتحار Suicide حيث تتفشى اللامعيارية Anomie نتيجة لتسارع الاحداث، والاختلال بوظائف الانساق الاجتماعية، وفشلها في تأدية حاجات الناس وخصوصاً على المستوى الروحي لهم، فربما احدث ذلك تحلل معياري عند الافراد، وربما ادى ذلك الى ارتفاع نسب الجريمة، وربما الإنتحار.
ولكن ماذا عسانا ان نفعل؟ ربما كان من الأجدر أن نواجه هذا الحدث، والتنبؤ بمستقبل مثل هذه الظواهر الوبائية، وهذا ربما احتاج منا ايام واعوام من التفكير والتخطيط والاستعداد لمثل هذه الجوائح او الظواهر، وهذا يحتم علينا أن نطور ونعتمد ما يسمى اليوم سوسيولوجيا المستقبلSociology of the future، فلا يُعقل ان نشاهد ابنيتنا الاجتماعية والاقتصادية، والثقافية تهتز وتتخلخل وتتفكك امامنا ونبقى مكتوفي الأيدي.
فسيسيولوجيا المستقبل اصبح الآن ميدان بحد ذاته مهمته : التنبؤ بالتغيرات الاجتماعية التي ستحدث بالمستقبل وبالتالي وضع الخطط الملائمة لمواجهة تلك المتغيرات التي ستحدثها مثل هذه الظواهر، حيث يهتم بهذا الموضوع علماء الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، وعلماء الأوبئة والجراثيم، والمتخصصون ببحوث التكنولوجيا بالذات. حيث يبذل هؤلاء جميعهم جهدا فائقا من اجل بلورة معالم التطور المستقبلي للمجتمعات للتصدي مستقبلا لمثل هذه الظواهر والجوائح وخصوصا اذا ما علمنا مدى انفلات ظاهرة طبيعية كالأوبئة من عقال السيطرة البشرية، رغم الكثير من التحليلات التي تتهم وتتوقع انه هناك ايادي بشرية تآمرية، وأن كوفيد19 ما هو الا ڤايروس من صنع البشر لخلط اوراق العالم ببعضها.
خالد فيّاض الشرفات / عضو الهيئة الاستشارية في مركز شُرفات لدراسات وبحوث العولمة والارهاب . باحث في علم الاجتماع /الأردن