2020-03-08
يقول البرفسور الأمريكي، جوزيف ناي الأبن، الذي يعد أهمّ منظري “الليبرالية الجديدة” في العلاقات الدولية، في كتابه “مفارقة القوة الأمريكية” 2003: إنّ أقدم أشكال العولمة هو “الاعتماد البيئي المتبادل”، ويضرب مثالاً على ذلك انتشار وباء الجدري في مصر القديمة، عام 135 قبل الميلاد، ثم وصول المرض إلى الصين عام 49 للميلاد، وإلى أوروبا عام 700 للميلاد، ثم إلى الأمريكيتين عام 1520، ليصل في النهاية إلى أستراليا عام 1789 للميلاد.
المقصود من هذا الاستشهاد من نوع “التأريخ بالعدد” هو الإشارة إلى قضية رئيسة وحاسمة في سيرورة العولمة؛ ألا وهي قضية تطور آليات العولمة التكنولوجية وتحديداً المواصلات والاتصالات وعملية الرابط والتشبيك الواسع والعميق لكافة البنى الاجتماعية في العالم القديم والمعاصر، ثم خطورة الأمراض والجراثيم والفيروسات، وانتشارها المتسارع وقدرتها الهائلة على نشر الهلع عالمياً وتأثيرها السلبي على شلّ الحياة الاجتماعية للبشر والاقتصاد العالمي، واحتمالية استخدامها المبرمج لأغراض إجرامية مختلفة، واستخدامها كأسلوب من أساليب الإرهاب العالمي، خاصّة أنّه من المعروف اليوم؛ أنّ احتمالات الإرهاب غير التقليدية، وعلى رأسها الكيماوي والنووي والبيولوجي والإلكتروني، تقع في قلب أجندات مكافحة الإرهاب العالمية، منذ عقدين من الزمن على الأقل، خاصة مع تطور قدرة الجماعات والمنظمات والأفراد، يوماً بعد يوم، على حرية الوصول إلى المكونات الأولية والخبرة والمعرفة بكيفية تحضرها واستخدامها متى أتيحت الفرصة والوقت المناسبَين.
يظهر كورونا كيف تعمل آليات العولمة في نشر المرض أولاً، ثم في نشر حالة الخوف والهلع منه ثانياً
وفي القلب من عملية تطور التكنولوجيا المستمر كانت تتفاعل آليات التسارع للتطور وتبني التكنولوجيا.
وكمثال على ذلك؛ أشير إلى مثال انتشار مرض واحد فقط وهو مرض الجدري، الذي انتقل من مصر إلى الصين ثم إلى الأمريكيتين (الشمالية والجنوبية-اللاتينية)؛ فمن خلال حسبة بسيطة يمكن أن نلاحظ أنّ مرض الجدري احتاج إلى 184 عاماً (قرنين من الزمن تقريباً) لينتقل من مصر القديمة إلى الصين؟ واحتاج إلى قرون طويلة ليصل إلى أوروبا وأستراليا.
ويعتقد كثير من المؤرخين والأنثربولوجيين أنّ الجدري نشأ في مصر قبل الميلاد، بعد العثور على مومياء الفرعون رمسيس الخامس، الذي توفَّى عام 1157 قبل الميلاد، وظهرت على بقاياه المحنطة مؤشرات الإصابة بالجدري كبعض النتوءات البثرية على جلده.
اقرأ أيضاً: الذعر يرفع أسعار مستلزمات الوقاية من كورونا في الضفة الغربية
وانتشر المرض في وقت لاحق وتعولم على طول طرق التجارة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، حيث تم توثيق أوصاف لا لبس فيها لهذا المرض في الصين، خلال القرن الرابع، وفي الهند ومنطقة البحر الأبيض المتوسط خلال القرن السابع الميلادي، فضلاً عن جنوب غرب آسيا خلال القرن العاشر.
وتشير التقديرات إلى أنّ الجدري دخل أوروبا بين القرنين الخامس والسابع مع انتشار الأوبئة خلال العصور الوسطى، وأدخل المستعمرون الأوروبيون الجدري إلى الأمريكيتين (وأيضاً أفريقيا وأستراليا) بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، مع معدلات إصابة بلغت 90%، ويعتقد أنّ الجدري كان السبب وراء سقوط إمبراطوريات الأزتيك والإنكا في أمريكا الجنوبية.
اقرأ أيضاً: أزمة اللاجئين.. هل سيّست تركيا فيروس كورونا؟
ورغم أنّ مسألة “الحالة” التي نقلت مرض الجدري من مصر، كانت مصدر تكهنات واجتهادات؛ إلا أنّ الاحتمال الأكبر أنّه انتقل عبر خطوط التجارة.
اليوم، وفي الحقبة الحالية من سيرورة العولمة؛ حدث عكس للأحداث التاريخية! وبدلاً من أن تستغرق رحلة انتقال مرض الجدري قرنين من الزمان؛ انتقل مرض “فيروس كورونا” من الصين إلى مصر والعالم، لكن بفعل آليات العولمة التكنولوجية، خاصة المواصلات، لم يستغرق انتشار الفيروس أكثر ثلاثة أشهر ليصل إلى مصر، رغم كافة الاحتياطات لمنع دخوله.
فقد ظهر مرض فيروس كورونا “19”COVI ، في 31 كانون الأول (ديسمبر) 2019، في سوق بمدينة” ووهان” الصينية، لينتشر حول العالم، في70 دولة، حتى 4 آذار (مارس) 2020، بحسب تصريحات رسمية لصندوق النقد الدولي نشرتها صحيفة “الغارديان” البريطانية، في 4 آذار (مارس) 2020، مخلّفاً زهاء 4000 حالة وفاة، وأكثر من 100 ألف إصابة مؤكدة حول العالم.
اقرأ أيضاً: هل سيقضي الصيف على فيروس كورونا؟ علماء يجيبون
لذلك أصبح فيروس الكورونا حاضراً في أجندات الدول في العالم، وانتشر بشكلٍ معولم، بتسارع يتماهى مع التسارع التكنولوجي، وانعكس تأثير المرض بشكلٍ سريع على كافة آليات العولمة الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية.
لكنّه تجلى بشكلٍ صارخ في آليات العولمة الاقتصادية؛ فقد أعلنت كريستينا جورجيفا، مديرة الإدارة في صندوق النقد الدولي؛ أنّ النمو الاقتصادي العالمي يتوقع أن يكون أقل من عام 2019، الذي بلغ 2.9%؛ حيث كان البنك يتوقع في بداية 2020 أن يبلغ النمو الاقتصادي ما نسبته 3.3 .%
ولذلك؛ سيطرح البنك مساعدات عاجلة بقيمة 50 بليون دولار لمساعدة الدول التي أصابها المرض، والتي بلغ عددها 70 دولة، من أصل 189 هي الدول الأعضاء في البنك.
وأضافت؛ فيروس الكورونا ضرب سلسلة عرض الأعمال والتجارة في العالم، خاصة في الدول النامية، التي تعجز غالبيتها عن القدرة للتعامل مع المرض.
أما في الصين؛ فقد أدى الفيروس إلى انخفاض سوق تجارة السيارات، بنسبة 80%، عالمياً، وتعمل المصانع الصينية بنسبة 60% من طاقتها الإنتاجية.
وانعكس تأثير المرض في العولمة الاجتماعية سلبياً على حركة السياحة والسفر وقطاعات النقل والمواصلات؛ فأفلست بعض شركات الطيران في بريطانيا، مثل شركة “فلايبي” (fly be).
أصبح فيروس الكورونا حاضراً في أجندات الدول في العالم، وانتشر بشكلٍ معولم، بتسارع يتماهى مع التسارع التكنولوجي
وتمّ إلغاء وإغلاق دور العبادة؛ وتعليق العمرة في السعودية، والكنائس في بيت لحم، والمراقد الشيعية في النجف، وإلغاء الكثير من الاجتماعات والمهرجانات والمؤتمرات.
لقد أدّت عولمة المرض إلى بروز ممارسات وأنماط جديدة من العمل والسلوكيات الإنسانية للحدّ من انتشار المرض، وسط حالة هلع هائلة تزاد كلّ يوم في العالم، ما يعطي مؤشراً على قدرة المرض المعولمة على تغيير سلوكيات الأفراد والمجتمعات والدول، وتغيير الأنماط الاقتصادية والاجتماعية والعادات والتقاليد.
فمثلاً؛ في كوريا الجنوبية، الدولة الثانية بعدد الإصابات، أجريت المحاكم عن بعد، وفي بريطانيا طلبت شركة “تاسكو” (Tesco)، وشركة “لويد-لندن” (lioyds) للتأمين، من آلاف الموظفين العمل من البيت خوفاً من انتقال العدوى.
في إسرائيل؛ دعا نتنياهو إلى عدم المصافحة في السلام، وتغيير عادة السلام باليد، خوفاً من انتقال العدوى، كما ظهرت حالات كثيرة عبر العالم من الرهاب والخوف من الآخر، والتنمر والوصم تجاه كلّ ما يرمز للصينيين مثلاً.
يظهر مرض فيروس كورونا كيف تعمل وتتضافر آليات العولمة في نشر المرض أولاً، ثم في نشر حالة الخوف والهلع من المرض ثانياً، وكيف ساهم المرض في حدّ ذاته، والتغطية الإعلامية له، في نشر العولمة، على الأقل في جانب التركيز على أهمية التعاون الدولي أمام المخاطر التي تتخطى الحدود الدولية، وأهمية تجاوز الخلافات والأزمات السياسية؛ كتلك التي بين الصين وأمريكا واليابان وكوريا الجنوبية.