دفعت العملية الإرهابية، التي نفّذها الأسترالي برنتون تارانت، ضدّ المسلمين في مسجدين بكريستشريش في نيوزيلندا، أثناء صلاة الجمعة في 15 آذار (مارس) 2019، وذهب ضحيتها 50 مسلماً وأصيب العشرات، ملفّ إرهاب اليمين المتطرف في الغرب إلى صدارة الأحداث والاهتمامات العالمية.
الفكرة الخطيرة التي يعتنقها المتطرف اليميني؛ أنّ الدولة القومية يجب عليها التخلص من العناصر الأجنبية التي تضعفها من الداخل
ورغم أنّ الهجوم الإرهابي جرى في نيوزيلندا، الجزر المنعزلة جغرافياً عن العالم في جنوب غرب المحيط الهادئ، إلا أنّ معظم الاهتمام والتركيز الإعلامي العالمي تركّز على أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، بقيادة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، باعتباره اليوم أحد أهم محركات الدفع العالمية في مسيرة اليمين المتطرف في الحقبة الحالية من العولمة.
فلأكثر من عقدين من الزمن؛ تجاهلت إستراتيجيات مكافحة التطرف المحلية –الأمريكية تنامي خطر “اليمين المتطرف جداً”، وفي أجواء اللامبالاة هذه، نمت وانتشرت هذه الحركة المتطرفة، وقد فشلت الأجهزة الأمنية في أمريكا في رؤية الخطر، الذي باتت تشكّله “جماعات اليمين المتطرف” أو الجماعات القومية البيضاء، واليوم فإنّها لا تعرف كيف توقف هذا الخطر”.
ورغم أنّ إرهاب ما يسمى “اليمين المتطرف” ضارب الجذور في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وأقدم بكثير من الإرهاب الذي يُنسب إلى الجماعات الإسلاموية المتطرفة؛ إلا أنه في ظلّ انشغال العالم بإرهاب الجماعات الإسلاموية، منذ أحداث سبتمبر العام 2001، غفل العالم، خاصّة في الغرب، أو تغافل، عن الخطر الذي يشكله التطرف العنيف والإرهاب الذي يمثله “اليمين المتطرف” في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية.
ورغم صعوبة تعريف اليمين المتطرف؛ إلا أنّه يمكن تعريفه بأنّه “طيف واسع من الجماعات القومية والدينية المتطرفة التي تشترك في عددٍ من الرؤى والأهداف والدوافع، وعلى رأسها: النازية والفاشية الجديدة، كراهية الأجانب، العنصرية، اللاسامية، وتهدف إلى التخلص من الحكومات الحالية، واستبدالها بأخرى قومية، ورغم أنها تنهل من أفكار النازية الألمانية والفاشية الإيطالية القديمة، إلا أننا لا نستطيع القول إنّ هناك قاعدة أو أصولاً أيديولوجية صلبة لهذه الجماعات المعاصرة.
وبشكلٍ عام، يمكن القول: إنّ الفكرة الرئيسة والخطيرة التي يعتنقها المتطرف اليميني هي؛ أنّ الدولة القومية، وهي تحكم نفسها، يجب عليها التخلص من العناصر الأجنبية التي تضعفها من الداخل، حتى تستطيع أن توفر العدل لمواطنيها الطبيعيين البيض”.
وأنّ الصراع في داخل الدولة والمجتمع يتكوّن من: عدوّ خارجي، (حقيقي / متخيَّل)، وهو على الغالب يتكون من اللاجئين والمهاجرين، والآخر المختلف مهما كان، وعدو داخلي، وهو الأخطر، ويتكون من الدولة الفيدرالية والحكومة ومؤسساتها المختلفة.
اليمين البديل في أمريكا
تنتمي معظم جماعات اليمين المتطرف في أمريكا، اليوم، إلى طيف واسع من الجماعات، بات يطلق عليه في أدبيات الظاهرة، وفي وسائل الإعلام الأمريكية “اليمين البديل/”The alt-right، أو (alternative right) وتشمل جماعات: القومية والعنصرية، الفاشية والنازية الجديدة، معاداة السامية، وإنكار المحرقة، الفوضوية، المتطرفين المسيحيين، المؤيدين لنظرية المؤامرة، الشعبوية، معاداة الإسلام، معارضة حقوق المرأة، معارضة الهجرة واللاجئين، والجماعات التي تدعو إلى عزلة أمريكا والسياسات الاقتصادية الحمائية، والرأسمالية الفوضوية.
يؤكّد ديفيد بالأرقام والبيانات أنّ إرهاب اليمين المتطرف يتجاوز إرهاب الجماعات الاسلاموية في أمريكا منذ زمن
ويعود أول استخدام للمفهوم إلى الفيلسوف الأمريكي المحافظ، بول غوتفريد، في تشرين الثاني (نوفمبر) العام 2008، لكنه أخذ شكله الحالي منذ العام 2010، مع ريتشارد سبنسر، مؤسس حركة “البديل الجديد”.
ونشطت الحركة بشكل كبير، عام 2016، بالتزامن مع الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، خاصة مع وجود شخصيات مهمة في إدارته مؤيدة للحركة، مثل: ستيف بانون، مستشار البيت الأبيض السابق، ومايكل فلين مستشار الأمن القومي السابق، وستيفن ميلر المستشار الخاص لترامب، وعدد من النواب والمرشحين للحزب الجمهوري.
ومن هنا، تأتي أهمية كتاب الصحفي الاستقصائي والخبير في اليمين الأمريكي المتطرف، ديفيد نيورت (David Neiwert)، الذي نعرض له هنا من اللغة الإنجليزية، وهو بعنوان “البديل الأمريكي: صعود اليمين المتطرف في عهد ترامب”، الصادر عن دار نشر فيرسو-لندن، طبعة 2019، ويتألف من 464 صفحة.
يستعرض الكتاب بعمق بدايات نمو خطر جماعات اليمين المتطرف التي تندرج تحت يافطة عريضة بات يتعارف عليها الآن في أدبيات الظاهرة، وفي الخطاب السياسي الأمريكي، تُدعى “اليمين البديل”؛ الذي يشمل طيفاً واسعاً من الجماعات والمنظمات، كما أسلفنا.
ويقول ديفيد: “كما أنّ فوز الرئيس ترامب في الانتخابات هزّ المنظومة الشعبية والسياسية الليبرالية في أمريكا، فإنّ الظهور المفاجئ والقوي لدعوات تفوق الأمة البيضاء ورهاب الغرباء، وقادة المليشيات العسكرية واليمين البديل قد أربك وحيّر الكثيرين في أمريكا والعالم”.
طبعاً، دون أن ينسى الإشارة الى أنّ تاريخ هذا اليمين المتطرف يذهب بعيداً في التاريخ، إلى ما قبل حقبة ترامب الحالية، وأنّها بدأت بالنمو التدريجي، منذ أواخر 1990، مع بروز ما يسمى بالمليشيا الوطنية في الكثير من الولايات الأمريكية، خاصة إثر هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، مدفوعة ومشبعة بنظرية المؤامرة وردّة الفعل السلبية على انتخاب باراك أوباما، كأول رئيس أمريكي أسود لأمريكا، واليوم تعدّ ولاية أريغون الأمريكية عاصمة اليمين البديل.
البديل الأمريكي
نبت البديل الأمريكي وتغذّى على قوة اليمن المتطرف في قطاع الإعلام، في التلفزيون والراديو والإنترنت، بحسب مقاربة صاحب الكتاب، الذي يعدّ اليوم من أهم المتخصصين الأمريكيين المعاصرين في ملف اليمين المتطرف، الذي أمضى عقدين من الزمن في استقصاء أثر اليمين المتطرف في أمريكا، واستطاع النفاذ إلى تفكيك خطاب هذا اليمين المتطرف وتحالفه مع المحافظين، والجمهوريين، وجماعات ومنظمات ضغط مختلفة، مثل؛ حزب الشاي، وعلاقاته بالرئيس الحالي للولايات المتحدة، دونالد ترامب، أو ما يسمى “الترامبوية” التي تضرب جذورها في عمق الثقافة والتاريخ الأمريكي، وكيف ساعد هذا اليمين في انتخاب ترامب، ثم كيف ساعد ترامب في تقوية هذا اليمين اليوم، ثم ليدخل المرحلة المرعبة التي أطلق “البديل الأمريكي”؛ حيث يتغذى الشعب الأمريكي على نظرية المؤامرة والعنصرية، وعدم الثقة الواسع والعميق في المؤسسات الفيدرالية منذ عقود خلت.
بين عامَي 2008 و2015، تم رصد (201) عملية إرهاب داخل أمريكا، (115) عملية منها كان اليمين المتطرف مسؤولاً عنها
ومن هنا، جاء عنوان الكتاب “البديل الأمريكي”، هذا البديل الذي يصفه ديفيد بأنه يتميز بوجود جمهور يتغذى على نظرية المؤامرة والخوف من الآخر، والعنصرية المترافقة مع عدم الثقة بالدولة ومؤسساتها الفيدرالية، وهذا الأمر مرتبط، كما لاحظ الكثير من الباحثين في الظاهرة، بمسألتين، كما أسلفنا، هما: أنّ على الدولة التخلص من العناصر الأجنبية التي تضعفها من الداخل، حتى تستطيع أن توفر العدل لمواطنيها الطبيعيين، وأنّ الدولة تواجه عدوّاً خارجياً، (حقيقياً/ متخيَّلاً)، وهو على الغالب يتكون من اللاجئين والمهاجرين والغرباء، وعدواً داخلياً، وهو الأخطر، ويتكون من الدولة الفيدرالية والحكومة ومؤسساتها المختلفة.
وتاريخ هذه الجماعات في أمريكا حافل بالشواهد والأمثلة على استهداف مؤسسات الدولة ومصالحها، ومثال على ذلك؛ العملية الإرهابية التي نفذها اليميني المتطرف، تيموثي مكيفي، في مدينة أوكلاهوما، في 19 نيسان (أبريل) 1995، وأدت إلى مقتل 168 شخصاً، منهم 8 من ضباط الأمن، وجرح 680 شخصاً عندما فجر شاحنة محملة بـ 2.2 طن من المتفجرات في مبنى ألفريد مورا الفدرالي، وقد تمّ إعدام المذكور بحقنة قاتلة، لدوره في العملية بتاريخ 11 حزيران (يونيو) 2001، علماً بأنّ المذكور كان رقيباً في القوات المسلحة الأمريكية، وحاصلاً على الميدالية البرونزية، وشارك في حرب الخليج الأولى.
هذا وتواجه أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية مشكلة إرهاب اليمين المتطرف، بدلاً من إرهاب تنظيم داعش، الذي انخفض عدد ضحاياه بشكلٍ حادٍ جداً، بنسبة (52%)، خاصة في سوريا والعراق، عام 2017.
وهنا؛ يؤكّد ديفيد بالأرقام والبيانات أنّ إرهاب اليمين المتطرف يتجاوز إرهاب الجماعات الاسلاموية في أمريكا منذ زمن؛ فمثلاً خلال الفترة الممتدة بين عامَي 2008 و2015، تمّ رصد (201) عملية إرهاب محلي (داخل أمريكا)، (115) عملية منها كان اليمين المتطرف مسؤولاً عنها، مقارنة بـ (63) عملية تنسب إلى الجماعات الإسلاموية.
اليوم؛ لم يعد خافياً أنّ بوصلة الرادار الغربي انحرفت للتركيز على خطر إرهاب اليمين المتطرف، الذي بات يجذب اهتمام الدوائر السياسية ومراكز البحث، في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أنّه ترافق مع زيادة في حدّة منسوب ما يسمى “جرائم الكراهية”، وتصاعد وتيرة الإسلاموفوبيا والإرهاب ضدّ المسلمين والجماعات الأخرى، خاصة اليهود.
ولعلّ أهم مثال على ذلك؛ التغطية الإعلامية، والإدانة الواسعة للهجوم الإرهابي الأخير في نيوزيلندا.