عرض وتحليل
الدكتور سعود فياض الشرفات
الفكرة الرئيسة في هذا الكتاب الذي حرره بيتر جي كاتزنشتاين الذي يعتبر من أهم منظري “المدرسة البنائية” في العلاقات الدولية هي تقديم مزيج من المقاربات التي تنأى بنفسها عن النزعة الاستثنائية ومحاولة دحض أطروحة صمويل هنتنغتون المركزية التي طرحها في كتابة المثير للجدل “صدام الحضارات” منذ أزيد من عقدين من الزمان.
ونظراً لأن الكتاب(نشر باللغة العربية عام 2012م عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية ) يعرض وجه نظر “المدرسة البنائية” في العلاقات الدولية؛ نشير الى أن هذه المدرسة حديثة العهد في العلوم الاجتماعية بشكل عام وحقل السياسة والعلاقات الدولية حيث دخلت العلاقات الدولية مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وسرعان ما أخذت حيزاً كبيراً في أدبيات هذا العلم لتكون المنافس القوي للنظريات التقليدية مثل الواقعية والليبرالية.
والبنائية؛ لا تشكل نظرية واحدة ومتماسكة، بل مجموعة من المقاربات المختلفة التي تشترك في عدة نقاط أهمها أنها تشكك بأي افتراض ينطلق من أن هناك حقائق وأشياء موجودة ومحددة بعيدة عن إرادتنا، فهي ترى أن عالمنا هو عملية أو مشروع مستمر في البناء من خلال التفاعل بين الأطراف الفاعلة (Agent )، والبناء(Structure).
ولذلك تركّز البنائية على أهمية كل من البِنى المعيارية والبِنى المادية في بناء الهوية المحددة للأفعال السياسية والعلاقة بين البنى والعملاء أو الفاعلين الدوليين ،فهي بذلك تجمع بين النموذجين العقلاني والنقدي في آن معًا. وبشكل عام (لأن هناك بعض التباينات التفصيلية بين منظري المدرسة حالياً) جذبت البنائية الكثير من التنويعات خارج حقل العلاقات الدولية في مختلف العلوم الاجتماعية.
يعتقد منظّروا “المدرسة البنائية “وعلى راسهم( الكسندر فندت، نيكولاس أونوف،أمانويل أدلر،وفردريك كروتشويك، وبيتر جي كاتزنشتاين،كرستيان ريوس-سميت،ريتشارد نيد ليبو،وغيرهم) أن تفسير الهويات وتشكيل المصالح يمكنه أن يفسر الكثير من الظواهر السياسية الأكثر تعقيدًا والتي فشل العقلانيون في تحليلها من قبل، كما يعتقد البنائيون أن كلًّا يملك تأثرًا متبادلًا في الآخر، ولهذا فإن هوية الفاعلين تؤثر في سلوكهم، كما يؤثر سلوكهم في هويتهم.
ولذلك فإنّ افتراض البنائيين للتأثير المتبادل بين البنى والفاعلين يجعل من نظرتهم نحو الفاعلين الدوليين سوسيولوجية -حسب بعض الباحثين- ، بمعنى أن الفاعلين الدوليين يشكلون هوياتهم، ومصالحهم، وسلوكياتهم بحسب ما يصل إليهم عن طريق التواصل والتفاعل في ما بينهم. كما أن البنائيين يعتبرون أن المجتمع ليس حقلًا استراتيجيًا يلاحق كل طرف فيه مصالح محددة مسبقًا، بل على العكس فإن المجتمع يحكم معرفة ووجود الأطراف الموجودة ضمنه.
المهم في عرضنا للنظرية أنها تركز على قوة الأفكار والحضارات في تشكيل السلوك الدولي لكل من الأطراف الفاعلة والبنى الاجتماعية التي يشكلونها. ولقد وجاء الإرهاب العالمي ، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)2001م لتدعم هذه الفرضيات خاصة بعد أن نجحت بعض “الأطراف الفاعلة من غير الدول” مثل تنظيم القاعدة في تحدي الهيمنة المادية التي تتمتع بها الولايات المتحدة، مما أعطى البنائية دفعة قوية كنظرية تفسيرية لكشفها أن الهويات والثقافة هي محددات أساسية لسلوك الأطراف الفاعلة في البيئة الدولية في عالم متغير.
طبعاً في نفس الوقت الذي أعطى نظرية هنتنغتون بعض القوة التفسيرية لكن بشكل مختلف عن مقاربات المدرسة البنائية. ولذلك جاء اختيارنا لهذا الكتاب. لآن الجدل السياسي والاجتماعي والثقافي محتدم اليوم في الغرب وفي الولايات المتحدة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب حول مسائل من صميم صراع الحضارات وانتشار الشعبوية والارهاب والتطرف العنيف حيث يمكن للمتابع السياسي والثقافي الحصيف أن يرى ويحس أطياف وأشباح هنتنغتون في البيت الأبيض.
وخلال فصول الكتاب الثمانية المختلفة يلاحظ بأن هنتنغتون كان موجوداً في كل السطور لأنه ركز بصراحة ووضوح منقطع النظير على قوة الأفكار والحضارات في تشكيل السلوك الدولي لكل من الأطراف الفاعلة والبنى الاجتماعية التي يشكلونها.
لكن يجب الإشارة الى أنّ هنتنغتون لم يكن يصدر عن نظرة بنائية. لأنه توفي وهو يعتبر واقعياً محافظاً. ولقد تحدث عن قوة الأفكار والحضارات من واقع فهمه للنظرية الواقعية المحافظة ولم يكن يسعى الى تعزيز أو استخدام فرضيات النظرية البنائية. وهذا ما يفسر النقد والهجوم عليه ومحاولة دحض ونسف أفكاره في الكتاب.
وأعتقد بأن فضيلة هنتنغتون في حقل الحضارات والسياسية الدولية ونظرية العلاقات الدولية أنه استطاع من خلال أطروحته المثيرة للجدل حول صدام الحضارات 1993و1996م أن يبعث ويفجر نشاط منقطع النظير سياسيا واجتماعيا وثقافيا وفكرياً في البحث والتحليل والتأليف في الرد أو نقد أطروحته. ومثال على ذلك ؛الكتاب الذي نعرض له، الذي يعتبر من أهم الكتب-حسب رأي- التي صدرت في حقل العلاقات الدولية خلال العقد الماضي التي استفادت أو استفزتها أطروحة هنتنغتون والرد عليها حسب اعتراف كاتزنشتاين محرر الكتاب نفسه.
عالمُ حضارات جمعية وتعددية
“يمكن للحضارة أن تزدهر من جذور كثيرة. يمكن للآلهة أن تحمل أسماء كثيرة…لا أحد منها يملك المفتاح. ليس ثمة أي شعب مختار”(فوسكو مارايني ).
يقول كاتزنشتاين أن الكتاب يختلف” بحدة عن مقولة الصدامات بين حضارات أحادية التي طرحها هنتنغتون 1993و 1996م . من المؤكد أن مقولة هنتنغتون جديرة بمعاينة دقيقة ليس بسب ميزتها الفكرية فقط ،بل لأنها تُرجمت الى (39) لغة. وفي الفصل الافتتاحي الذي كتبه كاتزنشتاين بعنوان” عالمُ حضارات جمعية وتعددية” يقول:
أن الحضارات موجودة جمعاً. وهي تتعايش فيما بينها في إطار حضارة حداثة واحدة، أو ما بتنا نطلق عليه اليوم في الكثير من الأحيان اسم “عالم كوكبي”.
والحضارات تعددية. وهذه “التعددية ناجمة عن حشدٍ من النواميس وسلسلة من الحوارات والاختلافات المتنوعة. ولأن مفهوم الحضارة تاريخياً كان بالمُفرد في الحضارة الأوروبية في القرن الثامن، بمعنى النظر اليها بوصفها برنامجاً ثقافيا متماسكا جرى تنظيمه تراتبياً حول نواة قيم لا خلاف حولها. ما لبث أن تكرس في تأسيس “معيار حضاري” وقانون أمم متحضرة، وغير متحضرة.
ويشير كاتزنشتاين الى “أن النظرة الى الحضارة بصيغة المفرد ليست حكراً على المنظومة المعرفية الغربية . بل تمّيز ايضاً الخطاب العام لعددٍ كبيرٍ من أجزاء العالم غير الغربية .ففي اليابان أولاً والصين الآن ،وربما الهند قريبا، باتت الأصوات ترتفع معلنة بزوغ فجر تفوق آسيا الحضاري في الشؤون العالمية. ومثله مثل الاستشراق، حيث تنتقد المبالغة في توسيع مدى مفهوم إدوارد سعيد للاستشراق- بالمناسبة يُعد إدوارد سعيد من منظري المدرسة البنائية في النقد الحضاري- يعاني الاستغراب من إلباس (الشرق)و(الغرب)ثوب المفرد” .
ولذك يصر الكتاب على النقيض من فكرة الحديث عن الحضارة بالمفرد على تكريس” الحديث عن حضارات تعددية وجمعية.
وفي شؤون العالم المعاصر ما زالت أصداء خطابات المعيار الحضاري تتردد، حيث يجري استحضارها في النقاشات الدائرة حول الدول الفاشلة، وحول الأساليب والسياسات التي يتعين على الدول الأسيوية اتباعها لمواجهة التحديات التي يطرحها الغرب المتقدم، وحول معايير كوكبية للحكم الرشيد ولحقوق الملكية ولحرية الأسواق، والعولمة”.
ورغم حسنات هذا النقاش الذي يستحيل إنكاره، ولا يزال مستمر؛ يرى كاتزنشتاين في المقابل أن “ثمة عالم حضارات جمعية متجذر في نسق أوسع لم يعد قابلاً لأن يتحدد بمعيار واحد معبر عن تراتبية أخلاقية معنوية صارمة”.
وأعتقد أن هذا التحليل ينسف بنيان نظرية الصدام الحضاري الذي تصوره هنتنغتون عن الحضارات وحدودها الطبيعية والاجتماعية وكأنها حيود قارية وجدران ملساء تمنع الالتصاق.
وفي فصول هذا الكتاب الثمانية هناك تحليل لأمريكا،أوروبا،الصين،اليابان،الهند،الاسلام،يوفر تأييداً قوياً للنظرة الجمعية والتعددية إلى الحضارات .
التعددية الداخلية للحضارات
رغم أن المؤلفين للكتاب اظهروا أوجه متباينة حول مقارباتهم للحضارات المدروسة وعدد من المسائل النظرية إلا أن تحليلات كل من : جيمس كورث في الفصل الثاني (الولايات المتحدة بوصفها قائدا حضارياً)،وإيمانويل أدلر ،في الفصل الثالث(أوروبا بوصفها أسرة ممارسة حضارية ) ،وديفيد كانغ في الفصل الرابع(الحضارة وتشكل الدولة في الصين )،وديفد ليهني في الفصل الخامس (مبادرة الساموراي إلى نجدة هنتنغتون)،وسوزان رودولف في الفصل السادس(أربع تنويعات على أوتار الحضارة الهندية )،وبروس لورنس في الفصل السابع(الاسلام في أفرو-أوراسيا) فأن تحليلاتهم بالمجمل ” أكدت على نحوٍ كاسح ،على التعددية الداخلية للحضارات والى التعايش بين جميع الحضارات.
في النهاية يصف كاتزنشتاين بشكلٍ مكثف فكرة الكتاب الرئيسة قائلاً بأنه” يصف الحضارات بكونها تشكيلات،كواكب،أومجمعات. هي ليست جامدة مكاناً و زمانا، وهي شديدة التمايز داخلياً من ناحية وفضفاضة الاندماج والتكامل ثقافيا من ناحية ثانية. ولأنها متمايزة فأنها تنتقل انتقائيا لا جملة. ولأنها فضفاضة الاندماج الثقافي، فأنها تتمخض عن آيات من الحوار والنزاع. وبوصفها تركيبات اجتماعية منتسبة الى الجذور الأولية، تستطيع الحضارات أن تصبح تجسيدات مادية ولاسيما لدى قيامها بتشجيع حضارات أخرى .
لا تؤسس الحضارات لا لعالم فوضى –هوبزي ولا لمجال عام تواصلي –هابرماسي،ولا لإمبراطوريه ولا لعاصمة كونية. بل نجدها بدلاً من ذلك أنظمة اجتماعية ضعيفة القاعدة المؤسسية منعكسة في ،ومتشكلة بفعل سلسلة متنوعة من الممارسات والسيرورات”.
وهي أخيرا تعبر عن أنماط مختلفة من الفكر ،وتتطور تدريجياً متجاوبة مع تعدديتها الداخلية ولقاءاتها الخارجية”.
واعتقد بأن من اهم شواهد ذلك التطور والتجاوب بين الخارجي والداخلي هو أن الخطاب الحضاري نفسه ليس اختراعا غربيا وليس تركيبا اجتماعيا محصورا في الحضارة الغربية؛لأن الأساس النظري المفهومي لتحليل الحضارة العالمية أرساه احد اعظم المفكرين الإسلاميين وهو ابن خلدون في القرن الخامس عشر الذي رأى عدم قابلية اختزال الشرق والغرب الى مجرد نقيضين وأن الاسلام جسر بينهما”.
في البيت الأول من قصيدة روديارد كبلنغ( موّال الشرق والغرب 1899 ) يؤكد أن الأثنين لن يلتقيا أبداً. لكن هذا الكتاب يعارض ذلك وبشدة.