ليس المهم ما يقوله الآخرون؛ المهم ما تقولة أنت…
(كينث ولتز، 2013)
ليس هناك تعريف محدد لظاهرة العولمة، حتى داخل النظريات والمناهج الواحدة أو المتشابهة، ولا يوجد –على حد علمي حتى لحظة – تعريف واحد متفق علية لدى المهتمين بالظاهرة؛ سواء من المحللين أو الخبراء أو الصحفيين أو (الأكاديميين)([1]). لذلك تتشابه كافة النظريات الكبرى (الواقعية، والليبرالية، والبنائية أو النظام–العالمي) التي تستخدم الآن لدراسة السياسة العالمية بأنها غير مكتفية ذاتياً من جهة التعريف بالظاهرة، فكيف بتفاعلات وتحولات الظاهرة المستمرة والمتسارعة، التي يغلب عليها الفوضى والشواش حيث يسود عدم اليقين وعدم الاستقرار وتتزايد المخاطر ويصعب التنبؤ بالتغيرات والتحولات([2]) («).
لذلك يُعدُ مفهوم العولمة من أكثر المفاهيم الإشكالية فيما يخص الماهية والتعريف نظراً لاختلاف وجهات النظر حول ماهيتها، وتظهر دراستها دراسة إبستمولوجية، إنها ظاهرة مركبة لا يمكن حصرها في تعريفٍ واحد، ولعل هذا ما منحها هذا الألق والرومانسية والإثارة الممزوجة بنوع من عدم الاستقرار والاهتزاز، والرخاوة المعرفية التي شجعت ولا زالت تشجع كافة المهتمين بها على بحثها، ودراستها، والتنظير لها سواءً سلباً أو إيجابا لذلك تجدر الإشارة إلى أن الأوصاف والمفاهيم النظرية الرئيسية تفسر الظاهرة بمفاهيم متباينة([3]) على النحو التالي:
أولاً: تفسير يرى أن الظاهرة ليست أكثر من مجرد مرحلة عابرة من مراحل التاريخ البشري، ومن ثم فلا ضرورة لإعادة النظر في مفاهيمنا للسياسة العالمية.
ثانياً: تفسير يرى أنها أحدث مظهر من مظاهر تنامي الرأسمالية، والليبرالية الجديدة والعنصريّة الغربية، وأنها أدت إلى زيادة الهّوة اقتصادياً واجتماعياً بين الدول الغنية والدول الأخرى الفقيرة في الأطراف([4]).
ثالثاً: تفسير يرى أنها مثال لتحول جوهري واسع وعميق في ميدان السياسة العالمية يتطلب إيجاد مقاربات جديدة لفهمه وإدراكه، بعيدا عن التحيز والتفكير الرغائبي والغائي.
وأنا أكثر ميلاً للأخذ بهذا التفسير للظاهرة؛ لأنه يبدو أكثر قدرة على دراسة الظاهرة، وتحليلها وعرضها هذا إضافة إلى عرض ما أعنيه خلال هذا الكتاب عند استخدامي لعبارة أو منهج Discipline – (السياسة العالمية)(«) بدلا من: السياسة الدولية أو العلاقات الدولية، لأنه يُعدُ أكثر شمولا للمعنى المقصود من العبارتين البديلتين([5]).
وقد لخّص (هيلد)، وآخرون (Held et al.1999) منذ أواخر التسعينات هذه المناظرات الثلاث في تحليل السياق التاريخي للظاهرة عندما أشار إلى وجود ثلاث وجهات نظر مسيطّرة في هذا المجال، هي: المشكّكة في العولمة (Skeptical) والمتحمسة جداً لها Hyper globalist)) والثالثة الأطروحة التحويلّية (Transformationalist Thesis) التي ترى أن العولمة هي القوة الرئيسة المسؤولة عن التغيرات، والتحولات، وإعادة تشكيل البنى الاقتصادية والسياسية والمجتمعات الحديثة، والنظام العالمي، حتى وإن كانت الدولة كطرف فاعل في السياسة الدولية لا زالت تملك دوراً تحويلياً([6])، الملفت للنظر أن جُل النقد الموجه لسيرورة العولمة يصدر من متابعين؛ أكاديميين وفلاسفة وصحفيين يمثلون الحضارة الغربية وتحديداً في فضاء الدول الناطقة باللغة (الفرنسية) والثقافة (الفرنسية) أو ما يُطلق عليه الثقافة (الفرنكوفونية) ولا يلوح في أفق تفكيرهم إلاّ إشارات ورموز وفضاءات الثقافة (الأمريكية) فحسب، وكأن الثقافة هي العولمة؛ والعولمة هي (أمريكا) فقط.
عند هذا الحد وللدخول في صلب الموضوع، والابتعاد عن المناظرات العديدة حول الظاهرة، يمكن القول إنَ العولمة هي تلك العملية المستمرة والمتسارعة -بتأثير فعّال وحاسم من التطور التكنولوجي التي تكتسب من خلالها العلاقات السياسية والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والتكنولوجية، سمات مجردة عن المسافات والحدود الطبيعية أو المصطنّعة، إذ أصبح البشر أكثر إدراكا من أي وقت مضى في التاريخ الإنساني؛ إنهم يعيشون في هذا العالم باعتباره مكاناً واحدا منفرداً شديد الترابط؛ بحيث يكون تأثير الأحداث والظواهر مهما كانت نوعيتها وشدتها، إنه يبقى مكاناً واحداً واسعاً وعميقاً امتداداً من: التطرف والإرهاب الأمراض المعدية أو الاحتباس الحراريّ، إلى تجارة المخدرات والسلاح والرقيق الأبيض إلى الرياضة؛ وتحديداً كرة القدم، فكم دولة شاركت في التصفيات لكأس العالم في البرازيل (2014)، وكم عدد المشاهدين وعلاقاتهم الكلانـّية إلى الأزمات المالية (كالأزمة المالية العالمية 2008م) أو التلوث البيئي، فمثلاً التلوث الذي سببه ثوران بركان (أيسلندا) خلال شهري (نيسان- أيار-2010م) أدى إلى إلغاء أكثر من مئة ألف رحلة طيران عبر العالم، وخسارة تبلغ أكثر من (بليون يورو) لشركات الطيران في العالم، وتابع ثورانه هذا ملايين المشاهدين في التلفزيون والمحطات الفضائية في العالم([7])
أما الأزمة المالية العالمية (2008م) فقد طرحت كثيراً من الأسئلة والتحديات على مستوى الجوهر سواء بالنسبة لعملية العولمة، أو بالنسبة للدولة كطرف فاعل وحيد وكوحدة تحليل في العلاقات الدولية، والسياسة العالمية، ذلك أن الإيمان بالسوق وآليات العولمة الاقتصادية قد تأثر بالسلب كثيراً نتيجة للأزمة، في حين أخذت الثقة في الدولة والحكومة والهيئات التنظيمية في الازدياد، فبعد عقود من الإجماع على أن دور الدولة لا بد أن يقتصر على وضع القواعد ثم ترك القطاع الخاص يدبر أموره بنفسه، أصبح كثير من الناس ينظرون إلى الدولة الآن باعتبارها قوة مفيدة، ولا بد أن تلعب دوراً نشطاً في الاقتصاد.
إن تدخل الدولة على نطاق أوسع في الاقتصاد لا بد أن يؤدي إلى التحول بعيداً عن عملية العولمة، ويعرقل مسيرة العولمة مما يمهد الطريق أمام أشكال متعددة من الحماية الوطنية، ويمكننا أن نرى هذا الآن في الصناعة المالية، حيث أدت ملكية الدولة المتزايدة إلى خطرٍ داهمٍ يتمثل في العودة إلى التأميم وإعادة تجزئة الأسواق المالية ([8]).
لكن المؤكد أن سيرورة العولمة خلقت نظاما دولياً وعالمياً معقداً جداً (تراخي مكانه الدولة كأداة قهر وحيدة)- تعجز فرادى الدول مهما كانت قوتها عن السيطرة عليه، ولم يعد تعدد القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من المسلمّات في هذا القرن وحسب، بل إنه يعتبر أمراً إيجابيا حتى من القوى القديمة المهيمنة مثل: الولايات المتحدة (الأمريكية) والدول (الأوروبية) و(اليابان)، وتـُـعدّ ظاهرة الإرهاب العالمي المعاصر التي تتغذى على التطرف – خاصة الديني- واحدة من تلك الظواهر التي أخذت خلال العقدين الماضيين تساهم في سيرورة عملية العولمة وزيادة ترابط العالم، رغم الجدل الواسع الذي لا يزال يكتنف المفهومين: العولمة والإرهاب، لأنه في ظل العولمة لا يمكن فهم الأحداث الجارية في العالم المعاصر إلا من خلال الأنظمة المعقدة ضمن المجتمع العالمي التي تشمل أطرافا فاعلة متعددة -(الدولة، فوق الدولة، ما دون الدولة) الحكومات والشركات والمنظمات الدولية المتخطية للحدود الوطنية، والمجموعات غير الشرعية، والمجموعات الإرهابية، ولأن الدول والحكومات تفقد سيادتها عندما تواجه الإرهابيين وتتعرض لهجومهم، أو التهديد باستهداف تلك الدول سواء مواطنيها، أو مصالحها تغدو مسألة محاولة دراسة العولمة وأثرها على التطرف والإرهاب العالمي محاولة مفيدة لفهم عالم العلاقات الدولية المعاصر والسياسة العالمية وتحليل العلاقات بين الأفراد، والحكومات والمنظمات الإرهابية بوصفها أطرافاً فاعلة في سيرورة العولمة.
ويؤكد المنظر السياسي الأمريكي (جيمس روزناو) أن من الضروري وضع تعريف واضح يحدد مفهوم العولمة بدقة، لكن من المبكر وضع تعريف كامل وجاهز لها يلائم التنوع الضخم لمظاهرها المتعددة وتعدد مستويات تحليلها، ثم ليصل في النهاية ليقرر أيضا أنه حتى لو تم تطوير تعريف كامل لها، فمن المشكوك فيه أن يتم قبوله واستعماله بشكل واسع([9]).
واتساقاً مع تعريفي للظاهرة ، ومقاربتي لها على أنها عملية مستمرة بهدف تناول سيرورتها (process) وتطوراتها وتفاعلاتها، بمعنى الحركية الزمنية لمسيرة الظاهرة بعد أن بدأت بالتكون (الكينونة-being) والتطور في طريقها الطويل نحو صيرورتها(becoming le devenir , (werden ,الغامضة([10]) فإنني اقاربها (Approach) من خلال ثلاثة معان هي:
- العولمة عملية كلانّية (Holistic) بمعنى أنها كيان كلي وأن مجموع تفاعلات وتحولات الظاهرة أكبر من مجموع أجزائها ومظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية ([11]) («).
وهذا يستدعي التأكيد على أنه لا يمكن ولا يستوي تجزئة الظاهرة، وأنه لا يمكن لمظهر منفرد أو معزول غائيا من مظاهرها المختلفة أن يعبر عن فحواها، أو أن يكون على صورتها، وتأتي أهمية هذه النقطة من حقيقة أن كثيراً من الباحثين والدارسين في الغرب، خاصة في (الولايات المتحدة الأمريكية) و(بريطانيا) يعمدون إلى اختصار وتجزئة العولمة ببعض آلياتها أو مظاهرها، مثال ذلك الحديث عن آليات العولمة الاقتصادية – وتضخيم فوائدها في المجتمعات – وكأنها العولمة، وهناك آخرون خاصة في (ألمانيا) و(فرنسا) ودول (أمريكا اللاتينية) وفي دول العالم الثالث العربية والإسلامية ومن يركزون على آلياتها الاجتماعية والثقافية على اعتبار أنها تؤدي إلى تفتيت المجتمعات للحط من قيمة وأهمية الظاهرة واعتبارها مجموعة من الأساطيرMyths)) على حد وصف المنظرين الاقتصادين البريطانيين (بول هيرست وغرهام تومبسون) ([12]) أو الكذبات العشر للعولمة على حد وصف خبيرين ألمانيين آخرين هما (جيرالد بوكسبرغر و هارولد كليمنتا) ([13]).
ويلاحظ أن العقد الأخير من القرن العشرين قد شهد وفرة في إنتاج كثير من الرطانة حول الثقافة أو الجبهة الثقافية في عصر العولمة وحشرها فيما يسمى بالحركات المابعد حداثية والمناهضة للعولمة حتى أضحى أي حشد أو مسيرة أو مظاهرة في شارع أو زقاق في العالم ضد غلاء الأسعار أو البطالة حتى التطرف والارهاب؛ احتجاج ورفض للعولمة؟!
- إنها عملية مستمرة وبتسارع كبيرٍ، وغير مستقرة وهي في جوهرها سيرورة وليدة ما زالت قيد التشكل، وهي بذلك لحظة متداخلة أشد التداخل من لحظات التاريخ الحضاري العالمي([14]) لكنها تتطور مكانياً وزمانياً وبتفاوت وعمق ملاحظ من مكان لآخر، ومن زمان لآخر بفعل آليات التغير والتحولات الكبرى المتسارعة التي تؤدي إلى ما يسمى بتغيير المسلمّات Paradigm shift))(«) التي باتت سمة تعتري كافة نواحي الحياة العصرية، ثم ما يتبع ذلك لاحقا من ضرورة قيام مناظرات علمية وتنافس بين أصحاب هذه المسلمات أو النماذج.
ويمكن القول أن تغير المسلمّات والتحولات الكبرى التي رافقت العولمة ربما تفوق كل ما حدث من تغيرات في التاريخ خلال الألفي سنة الأخيرة ([15]).
- التأكيد على معنى مفهوم العولمة-الذي اعتمدته، وسبقت الإشارة إليه، وتحديد الفارق الكبير بينها وبين مجموعة أخرى من المفاهيم التي تستخدم مرادفات لها رغم اختلاف معانيها عن معنى العولمة. ومن أهمها:
- التدويلّية-(Internationalization).
- اللبّرَالة ( Liberalization).
- الكوكبة أو العالمية ( (Universalization([16]) («).
- الغربّنة أو التغريب، أو الأمركة Westernization)).
- تجاوز الحدود (Deterritorialization).
إن كثيراً من الباحثين عجزوا عن أن يحددوا مثل هذا الفارق بين العولمة وهذه المفاهيم الخمسة الملتبسة.إذ إنهم يستخدمون مصطلح “العولمة” وهذه المفاهيم يخلطون بينها.فإذا كانت هذه المفاهيم تشير إلى الظروف نفسها،حينها لن يكون هناك معنى للحديث عن العولمة، وفي هذه الحال تصبح المناقشات الراهنة عن العولمة مجرد إعادة صياغة للطروحات القديمة التي عرضها الواقعيون والليبراليون والماركسيون حتى قبل ما يزيد على مئة سنة خلت، فقد كانت هناك أفكار متداولة تتحدث عن عالم واحد قبل ثمانينات القرن العشرين، فقد بدأ الناطقون باللغة الإنجليزية يستخدمون كلمة ( (Global للدلالة على العالم بأسره في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت الكلمة تعني في السابق (pherical S) كروي إشارة إلى الكرة الأرضية، إلا أن الكلمتين (Globalize) بمعنى يعولم، و(Globalism) بمعنى مذهب العولمة وردتا أولاً في كتاب مغمور نشر عام (1944م)، فـي حيـن أن مصطلح العولمة (Globalization) دخل قاموس وبستر (Webster) للمرة الأولى عام (1961م).
إن الوقائع التي شهدها العالم على الأرض خلال ما يقارب السنوات الأربعين الأخيرة من القرن العشرين، كشفت بجلاءٍ عن تغيرٍ ملحوظٍ ومهم يتنامى فعلا في عالم اليوم وأن مفهوم العولمة أفضل وأوضح تجسيداً له([17])، ولعل من أفضل وأوضح الأمثلة التي تعجُّ بالحركة والتجسيد لظاهرة العولمة في القرن الواحد والعشرين ظاهرة الرياضة، تحديداً التي أصبحت أحد أبرز أطراف ومظاهر العولمة الاجتماعية، بما فعلته من تجاوزٍ للزمان والمكان، ودمجِ للأفراد والجماعات من جميع الدول في العالم في إطار الاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA)، كما أن ملايين البشر في كل أنحاء العالم أصبحوا يشاهدون ويتابعون المباريات في آن معاً، بصرف النظر عن تباعد المسافات التي تفصل بينهم(«)، ولقد ظهر هذا الميل والهوس بكرة القدم في التصفيات الأخيرة التي أقيمت في حزيران – تموز -2014 في (البرازيل).
وبهدف تكثيف سيرورة الأحداث المهمة في الاستعراض التاريخي – المبسط – لظاهرة العولمة، وبعيداً عن أية محاولات لسرد الأحداث السياسية أو التحولات المجتمعية التي شهدها القرن العشرون، وبدايات القرن الواحد والعشرين، سأركز على البدء بتتبع بعض المحطات المهمة والاتجاهات الغالبة والعميقة التي – كان لها بالغ التأثير في التاريخ القريب لسيرورة الظاهرة من بدايات القرن العشرين تحديداً، وهي المرحلة التي وصفها (رونالد روبرتسون، 1996) بالمرحلة الخامسة من تطور الظاهرة التي أطلق عليها اسم مرحلة عدم اليقين ([18])، وسأعرض لاحقاً بالتفصيل لتلك المراحل عند (روبرتسون) التي بدأت منذ الستينات في القرن العشرين وحتى عام (2014)، وتم خلالها إدماج العالم الثالث بالمجتمع العالمي والتطور التكنولوجي الكبير في العالم، وتعقدت المفاهيم الخاصة بالأفراد لاعتبارات الجنس والسلالة، وزاد فيها الاهتمام بالمجتمع المدني العالمي والمواطنيّة العالمية، وتسارعت فيها الأهمية النسبية للأطراف الفاعلة من غير الدول خاصة الجماعات الإرهابية العالمية وما يتصل بالإسلام كحركة مناقضة للعولمة، أو تعولم من جديد ([19]) ويمكن القول إن إشارة وملاحظة (روبرتسون) هذه (العلاقة العكسّية بين الإسلام والعولمة) تعدُّ من أول الإشارات إلى العلاقة الإشكالية بين العولمة والإسلام، وتشكل جزءاً من الأدبيات الأكاديمية الغربية التي شكلت الأرضية التي تم بها مقاربة العلاقة بين العولمة والإرهاب على فرضية ربط الإرهاب بالإسلام، كذلك فقد شهدت هذه المرحلة خاصة بعد أحداث (11 / أيلول/ 2001م) تسارع وتيرة التعاون الدولي في مجالات مكافحة الإرهاب حتى بما يتطلبه ذلك من تنازل لكثير من الدول عن كثير من مظاهر سيادتها كليا أو جزئياً، في مقابل تسارع وتيرة التعاون العولمي بين الجماعات الإرهابية المختلفة في اكتساب الخبرات والمشورة والاتصال والتجنيد عبر آليات العولمة التكنولوجية، وأهمها شبكة (الانترنت) وشبكات التواصل الاجتماعي.
وفي هذه المرحلة، تعتبر قمة (مالطا، 2-3 – كانون اول – 1989) -التي جمعت الرئيسين: (الأمريكي جورج بوش) الأب والسوفييتي (ميخائيل غورباتشوف)– لدى كثير من الباحثين إعلاناً رسمياً لنهاية حقبة الحرب الباردة ([20])، وإيذانا بانتهاء النظام الدولي ثنائي القطبية الذي كان سائداً آنذاك، الأمر الذي أطلق عملية العولمة بقوة وبتسارع كبيرين جداً، خاصة في التسعينات التي شهدت ما وصفه (هنتنغتون) بهيجان أزمة الهوية([21]).
فقد جاءت القمة وسط تحولات سياسية واقتصادية عالمية عميقة في الغرب والشرق وبكثير من التفاؤل الذي منحته هذه التحولات في المجتمعات والسياسة العالمية واتجهت النظرة للعلاقات الدولية والسياسة العالمية على أساس محاولة الابتعاد عن اللعبة الصفرية والاقتراب من وضعية المصالح المتبادلة والنفعية الخالصة، كما تعبر عنها النظرية الليبرالية، والليبرالية الجديدة لا على أسس اللعبة الصفرية (خسارة طرف تعني ربح طرف) التوازنات والردع والقوة العسكرية التي كان يركز عليها منظرو المدرسة الواقعية.
ورغم أنه من الصعب على الباحثين) إمبريقياً) قياس مدى تأثير الصدام بين المعسكرين (الشيوعي والرأسمالي) في تسهيل سيرورة العولمة أو إعاقتها([22])، لكنه وبذات الوقت يمكن القول إن السياسة العالمية اختبرت وواجهت ولأول مرة منذ إعلان نهاية الحرب الباردة أكثر تأثيرات العولمة خطورة الذي تمثل بعملية : التفتيت والتحطيم للبنى والهياكل السياسية، التي كانت سائدة، قبل وإبان حقبة الحرب الباردة، والدمج والاستيعاب لهذه ا لبنى والهياكل على المستوى الاقتصادي.
ومن هنا تركز مناهج البحث والمدرسة النقدية في دراسة الظاهرة على الحط من قيمة العولمة والتحذير الشديد من شرورها، والتركيز على مظهرها الاقتصادي فقط، وبناءً عليه برزت حساسية وتخوف كبيران عبر العالم من العولمة واعتبارها (أمركة) واستعماراً جديداً([23])، إن العولمة بما هي سيرورة هي عملية تطور مستمرة ومتسارعة نحو الأمام، وهي بذلك تعني تطور البشرية مادياً وإنسانياً، ذلك التطور المتماهي مع تسارع إدراكه بفضل آليات العولمة (التكنولوجية)، هذه السيرورة وجدت متماهية منذ وجد البشر وتطورت من الإنسان الأول – الصياد إلى المزارع إلى الإنسان المعاصر مع التطور التكنولوجي والعلمي الذي طور بدوره قيم وعادات تتوافق معها وإن بشيء من المعارضة في فترات لاحقة، خاصة عندما تسارعت (التكنولوجيا) وباتت تشكل تحدياً ورعباً للبشر، لاسيما في حالات التفاوت الشديد في الاستفادة من مخرجات (التكنولوجيا) ولعل ذلك ما يفسر المعارضة الشديدة لها.
كما أن العولمة ليست (إيديولوجية) خالصة وبهذا المجال يرى المؤرخ (الأمريكي) (بروس مازليش، 2014) بأنه يمكن لبعض جوانب العولمة ان ينظر اليها باعتبارها جزءاً من النزعة الاستعمارية الجديدة ولأنها ليست كذلك، فإنها تنسحب رغما عن معارضيها على العالم المعاصر، إذ لو كانت (إيديولوجية) لسهل على البشر معارضتها واتقاء شرورها، والإنسان المعاصر إذا تُرِكَ حراً يستطيع أن يرفض (الأيدولوجيا) مهما كان نوعها، وأن يضحي من أجل ذلك، لكن من الصعب أن يرفض الإنسان الآن استخدام آليات العولمة (التكنولوجية) مثل: (الإنترنت)، وآليات العولمة الاقتصادية وينأى بنفسه عن الاستفادة من التجارة (الإلكترونية) واستخدام التحويلات المالية، والمظاهر الأخرى في الاتصالات والمواصلات (الهاتف الخلوي والسيارة والطائرة والتلفزيون والفيديو والكمبيوتر والإنترنت ومواقع الاتصال الاجتماعي).
ومن هنا تأتي أهمية آليات العولمة (التكنولوجية) القائمة على تقاطع العلم النظري العملي، الأمر الذي أدى إلى أن اتساع مخيال الإرهابيين فصار اكثر فتكاً، وقد بدأت مع بداية ثمانينات القرن العشرين تنتشر بوصفها مفهوماً يشير إلى ظاهرة تجاوز الحدود، والعملية التي تكتسب من خلالها العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية سمات مجردة عن المسافات والحدود بحيث يتعايش البشر باطراد في العالم باعتباره مكاناً واحداً منفرداً ([24]).
ويشير (جيمس روزناو)([25]) إلى أن عملية انتشار السلع والخدمات والأفراد والأفكار والمعلومات والنقود والرموز والاتجاهات وغيرها إنما تتم من خلال أربع طرق متداخلة ومترابطة هي:
- التفاعل الحواري ثنائي الاتجاه عن طريق تكنولوجيا الاتصال.
- الاتصال (المونولوجي) أحادي الاتجاه من خلال الطبقة الوسطى.
- المنافسة والمحاكاة. (ديالوج).
- تماثل المؤسسات. (بوليفون).
والعولمة تتضمن صراعاً مستمراً بين العولمة والإقليمية والمحلية، إذ تقلل العولمة من أهمية المحلية التي تزيد من أهمية الحدود، وتدعو إلى توسيعها بشكل يؤدي إلى انتقال الأفكار والمبادئ والثقافات،أي أن العولمة تقتضي تحول الاقتصادات الحديثة إلى أنظمة موحدة تتضمن اتساع حجم المبادلات الدولية، وانتشار الخصوصيات الثقافية والاستهلاكية للدول، وتغيير نوعية الأسواق وذلك بظهور أنواع جديدة من الأسواق تتجاوز الاعتبارات الوطنية بين الأسواق العالمية عبر الدول في
ظل توفر منافسة حقيقية في مجالات الإنتاج والتسوق والإعلام، بحيث تستجيب هذه السلع والخدمات حاجيات الناس ورغباتهم مهما كانت خصوصيتها أو حجمها أو مكانها على خريطة العالم.
وفي مجال نقد سيرورة العولمة واثرها على العالم العربي( من منظور ماركسي) أكد عالم الاقتصاد والمفكر سمير أمين( قضايا الشيوعية المصرية وثائق الحزب الشيوعي المصري 1955-1957) أن هناك تناقضاً كبيراً بين نمط العولمة الاقتصادية المسيطرة على العالم و منطق الدولة الوطنية والقومية، وان هذا النمط من العولمة الاقتصادية المسيطر على العالم، لا مستقبل له، لأنه يؤدي الى تصفية كيان الدولة، والمجتمعات حتى الآن لا تعرف طريقة أخرى للعيش خارج اطار الدولة، فلا يوجد تصور لإدارة المجتمع دون دولة، ولا يمكن أدارته من خلال المنظمات الأهلية أو السوق، وهذا التناقض قاتل لهذا النمط من العولمة.
ويرى أمين بأن المنطقة العربية تعيش في ظل نظام جديد من العولمة اطلق عليه تسمية عسكرة العولمة، مشيراً الى ان هناك تحالف عولمي بين دول الخليج وإسرائيل و(امريكا)، للعمل على نشر نموذج على اوسع نطاق في الدول العربية الأخرى والعمل على تفتيت مفهوم الدولة الوطنية.
ومؤشر العسكرة(G M I) الذي تحدث عنه أمين مقياس يستخدم في أدبيات العلاقات الدولية يعتمد على عدد من المؤشرات مثل:
1 -نسبة الإنفاق الدفاعي لإجمالي الناتج المحلي .
2- نسبة عدد الجيش إلى عدد السكان .
3- نسبة عدد الجيش قياسا لعدد العلماء.
4- نسبة الإنفاق على الصحة والتعليم، إلى نسبة الإنفاق على الدفاع. ويعطى كل مؤشر وزناً(استنادا لمعادلة رياضية) ويتم حساب المجموع بطريقة علمية رياضية إحصائية.
وقد كشف المؤشر عن أنه من بين أعلى عشرين دولة في العالم في نسبة العسكرة كان هناك عشرة دول عربية ولم يكن بينها أي من الدول الكبرى سوى روسيا واحتلت إسرائيل المرتبة الأولى عالميا بمجموع 794 نقطة (من ألف) واحتلت سوريا المرتبة الثالثة بمجموع 714 نقطة ، بينما جاءت الأردن في المرتبة الخامسة بمجموع694 نقطة، اما بقية الدول العربية المبدعة في عسكرة المجتمع فهي الكويت(المرتبة السابعة)، السعودية(العاشرة)،عمان(الحادي عشر)، البحرين (الثالث عشر) ليبيا(الرابع عشر)، الإمارات (السادس عشر)،الجزائر(الثامن عشر) ، لبنان (التاسع عشر)، واحتلت مصر المرتبة 28 عالميا.
وقريباً من ذلك جادل(هنتنغتون) ومنذ (1993) حين قدم مقاربته الأولى عن (صدام الحضارات) أي قبل أحداث (11 / أيلول / 2001م) الإرهابية بعقدين من الزمن وقبل الهجوم الارهابي على صحيفة (تشارلي إبدو الفرنسية ) ومقتل 12 من هيئة تحريرها في مطلع شهر كانون ثاني 2015م وانتشار الموجة الجديدة من (الاسلاموفوبيا) قائلاً إنّ سيرورة العولمة تزيد من احتمالات الصدام الحضاري، لأن العالم أخذ في التحول إلى رقعة أصغر، وهو ما يرفع درجة الوعي بالخلافات والتهديدات السياسية والثقافية، وأن التغيرات المتسارعة في الشؤون الاقتصادية تساعد على عزل الناس عن ولاءاتهم المحلية وإضعاف الدولة، أمّا الفراغ الناجم عن ذلك في الهوية والولاء فيجري ملؤه بمرجعيات اجتماعية وثقافية([26]).
ويعلّق الباحث(البريطاني) والخبير في الشرق الأوسط (سايمون ميردين) على مقاربة (هنتنغتون)، مؤكدا أنه في جزء كبير من الخطاب الجاري حول الصدام الحضاري، كان الإسلام رمكز الاهتمام أكثر فأكثر ([27]).
ولذلك يمكن القول إنَ مقاربة (هنتنغتون) حول صدام الحضارات كانت بمثابة النبوءة لما حدث في (11 / أيلول / 2001) ضد (أمريكا) ([28]) وضد مجلة (تشارلي إبدو الفرنسية) من هجمات إرهابية وخارطة طريق أو مشروعاً ذا خلفية نظرية حول كيفية التعاطي مع الإسلام ككل وليس مع المتطرفين الإسلاميين، أذ أكد أن خطوط حدود الإسلام وداخله (كحضارة) دمويةً، وأن صراعات خط الصدع بصفة خاصة ستكون ظاهرة بين المسلمين وغير المسلمين([29]) وأن مشكلة الغرب الرئيسة ليس المتطرفين الإسلاميين بل الإسلام نفسه كحضارة مختلفة يرى أتباعها أنهم متفوقون حضارياً ([30]).
وهذا يعني بعدين: الأول أن هناك عملية ربط مبكرة (أيديولوجيا) ونظرياً في الغرب خاصة في (أمريكا) بين: العولمة – الإسلام –التطرف – الإرهاب، والثاني أن هناك مقاربات كيفية ومعيارية غير( إمبريقية) مبكرة أيضا حول أثر عملية العولمة الإيجابي على الإرهاب، بمعنى أن العولمة زادت من انتشار، وإدراك ظاهرة الإرهاب مثل مقاربة (هنتنغتون) وأخرى “نقدية” ترى أن الإرهاب ناتج عن العولمة من الأسفل التي تعارض العولمة من أعلى بحجة أنها تؤدي إلى صراعات اجتماعية وسياسية ([31]).
لقد تعرضت مقاربة (هنتنغتنون) التي كانت تنظر إلى الحضارات الإسلامية والصينية والغربية كأطراف فاعلة في السياسة العالمية الى نقدٍ عنيف منذ تناولها في الدوائر الأكاديمية والإعلامية في جميع أنحاء العالم ، غير أن أحدث جهد مركز لتفكيك هذه المقاربة هو ما أشار إليه في مؤلفه (الحضارة ومضامينها) المنظر الأمريكي (جي جون اكنبيري) في مجلة (الفورن افيرز) كانون ثاني (2014) عندما أشار إلى أن هناك جهداً منظماً لمجموعة من منظري العلاقات الدولية على رأسهم (بيتر جي. كاتزنشتاين Peter J. Katzenstein) الذي عارض مقاربة (هنتنغتنون) والمقاربة (اللبيرالية)، مؤكدا على أن الحضارات مهمة؛ لكنها ليست أطرافاً فاعلة، بل هي نظام فضفاض وواسع من المعتقدات والهويات، وأن الانقسامات لا زالت موجودة لكنها تعمل بغموض بين الحضارات العالمية المختلفة؛ وداخل كل حضارة ولقد بدأ (كاتزنشتاين) هذا الجدل والنقاش مع عدد من زملائه من خلال مؤلفه (الحضارات في السياسة العالمية، وجهات نظر جمعية تعددية (2010م).
ويرى الباحثان (مايكل جير وشارل برايت) في بحثهما أين تقع (أميريكا) في العالم: تاريخ (أميركا) في عصر العولمة، 2005م أن فكرة العولمة هي التي تعني (الأمركة) للعالم هي نظرة متحيزة بعض الشيء وغير دقيقة، ذلك أن هناك كثيراً من (الأمريكيين) يخشون أن ينصهروا ويذوبوا في العالم من خلال العولمة، وأن الخوف ليس من طرف واحد، كما أن العولمة لن تؤدي إلى التنميط كما يخشى البعض والخصوصيات الثقافية المختلفة لن تزول بوجود العولمة، وإن كل ما سيحصل هو زيادة التفاعل بين الثقافات والشعوب أكثر من السابق بسبب تطور وسائل الاتصال والمواصلات ([32]).
وبناءً عليه ترى الباحثة الأمريكية (ماريلين يونغ) في بحث لها بعنوان (أمريكا في عصر القوة الشمولية،2006م) أنَ هناك وهماً (أيديولوجياً) لدى الكثيرين يريد تضخيم دور (أمريكا) وشيطنته لكي يعفي نفسه من المسؤولية([33] (.
ونشير هنا إلى أن(فرنسيس فوكوياما) صاحب نظرية نهاية التاريخ (1998) الذي انقلب على تيار المحافظين الجدد، واستراتيجية القطب الواحد المهيمن، من خلال كتابه الأخير(أمريكا) في مفترق الطرق: الديمقراطية والسلطة وميراث المحافظين الجدد 2006م، يؤكد أن (أمريكا) نأت بنفسها عن روحية عملية العولمة عندما عزلت نفسها كلياً تقريباً عن العالم عبر اعتمادها استراتيجية القطب الواحد([34])، وأن هناك استقطاباً كبيراً ونزعة تعصبّية وغوغائية وانعزالية (أمريكية)، بسبب إخفاقها في العراق([35] ).
لذلك، فإن البعض كان يرى أن (أمريكا) من خلال (بوش الابن) والمحافظين الجدد كانت تسعى لإقامة نظام (ثيوقراطي)، وقيادة البلاد إلى الإفلاس وإثارة المشاعر المناهضة لـ (لأمريكيين) وبالطبع فإن هذا يتنافى مع روح العولمة التي تعمل على إدماج البشر في عالم واحد ([36] (.
لكن هذا الوضع إبان حكم (بوش الابن) والمحافظين الجدد المثيرة للجدل لم يستمر، ذلك أن حركة التاريخ تأبى الرتابة، والتغير الاجتماعي، فسمة العالم والجماعات البشرية يحتاج بعضها إلى بعض خاصة في حقبة العولمة الحالية.
إن البشر كائنات غير مكتفية ذاتيا إذ إنهم بحاجة لبعضهم، وإلى قدر من التعاون للبقاء كما يقول (سقراط)، وأنهم – كأفراد وجماعات ودول – وبشكل طبيعي ملائمون لمهام مختلفة، ومن أجل تحقيق الفاعلية، عليهم أن يفعلوا ما يتناسب وقدراتهم([37]).
ولذلك يمكننا القول إن سيرورة العولمة ليست محايدة، وفي أغلب الأدبيات الغربية خاصة (الأمريكية) يراد بها ليس فقط مجرد نقل الحركة أو الفعل إلى النطاق العالمي، بل توسيع دائرته ، أو تصميم نمط من الأنماط الفكرية والسياسية أو الاقتصادية على العالم كله، ولعل هذا هو أحد أسباب تخوف وهجوم منتقدو العولمة عليها.
إن أهم ما يبلور العولمة كممارسة عملية على حساب المحلية أو الإقليمية في العالم عاملان اثنان هما: التطور التكنولوجي، والاتجاه نحو اقتصاد السوق الذي تمارسه من قبل غالبية دول العالم وخاصة بعد تفكك ما كان يسمى بـ(الاتحاد السوفيتي)، فقد أدى التطور (التكنولوجي) المذهل الذي يشهده العالم في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية وهذا ساهم في تحقيق الكفاءة الإنتاجية والفعالية الاقتصادية لتلك المنتجات بشكل يجعلها متوفرة بكميات كبيرة تحقق وفورات الحجم الكبير (Large-Scale Economies) التي تتضمن أسعارا منافسة ونوعيات مميزة تقابل رغبات وحاجيات المستهلكين أينما كانوا ([38]).
يضاف إلى ذلك أن التطور (التكنولوجي) قد ترافق مع ثورة المعلومات وأدى إلى تسارع تقدم وسائل الاتصال البينّي عبر دول العالم (The Internet)، الأمر الذي جعل مسألة تسويق السلع والخدمات في غاية اليسر والسهولة، وهذا الأمر لا يقتصر على الجانب الاقتصادي وحسب، وإنما يتعداه إلى نقل المعرفة والمبادئ والثقافات بين شعوب العالم.
أما اتجاه الدول نحو اقتصاد السوق، فقد جاء بعد تفكك (الاتحاد السوفيتي) وانهيار منظومته الاقتصادية، وبروز دول مشاطرة مستقلة عن الكيان (السوفيتي)، ترافقت مع بروز نزعات تحررية لهذه الدول، ولدول أخرى كانت ضمن فلك المعسكر الشرقي، واتجهت جميعها إلى اقتصاد السوق وإلى محاولة الانضمام إلى حلف (الناتو)، وبرزت جراء ذلك كله مصالح متبادلة بين هذه الدول وبقية دول العالم، على أساس تعظيم المنافع عن طريق التبادل التجاري وتبادل الخبرات والأيدي العاملة الماهرة، وهذا الاتجاه نحو اقتصاد السوق قد ترافق مع التباين الكبير في واقع كل دولة، مما جعل عملية التحول مستمرة ومختلفة في سرعة تكيف واستجابة كل دولة.
والمهم في هذا الأمر هو قدرة دول الشمال حالياً على الإفادة من تفاوت التطور التكنولوجي والمعرفي وتطور وسائل الاتصال العالمي في تحقيق مكاسب أكيدة على حساب دول الجنوب بشكل يكرس التبعية الاقتصادية والسياسية من خلال جعلها أسواقاً استهلاكية لمنتجاتها المختلفة بالاستفادة من الفروقات الكبيرة في تقنيات وأساليب الإنتاج والتسويق، وبالتالي حتمية وجود فورقات حقيقية في الميزات النسبية للتجارة الخارجية بين الجانبين.
لذلك فإن هناك بعض المنظرين الذين ينظرون إلى الأبعاد الاقتصادية لحركة العولمة وما يتعلق بها من انهيار الحواجز والحدود، وحرية حركة الأموال، والعمالة وزيادة معدلات التبادل التجاري، بوصفها المحرك الرئيس للعلاقات الدولية والسياسة العالمية المعاصرة، ويؤكد الباحث الهندي (باراج كهانا)([39]) في كتابه (العالم الثاني) أن العولمة الاقتصادية تلعب دورا كبيرا أيضا في صعود الدول القوية إلي مصاف القوى الإمبراطورية وذلك لأن الاقتصاد اليوم يلعب دوراً محورياً في قدرة الإمبراطوريات على مد نفوذها وهيمنتها خارج حدودها إلي ما يسميه دول العالم الثاني والثالث ويوجد في العالم اليوم، حسب رؤية كهانا، ثلاث قوى إمبراطورية، هي (الولايات المتحدة)، والاتحاد (الأوروبي)، و(الصين)، وتشكل العلاقات بينها المحور الأساسي الذي يدور حوله النظام العالمي وتسعى كل إمبراطورية لتشكيل منطقة نفوذ في محيطها الإقليمي عن طريق ضم دول العالم الثالث (أي الدول الضعيفة أو الفاشلة) – والممثلة في آسيا بكل دول جنوب آسيا، مثل ميانمار، وباكستان وبنجلاديش – دولاً تابعة لها، ويقول (كهانا) إن الدول التابعة في عالم اليوم تُشترى، ولا تُضم عن طريق الغزو، كما كان نهج الإمبراطوريات تاريخياً.
وتسعى الإمبراطوريات إلى عقد صلات تحالف مع ما تسميه دول العالم الثاني والتي من بينها إيران، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، والبرازيل، والتي تعد دولا في مرحلة تحول، تتميز ببعض عناصر قوة العالم الأول، وبعض عناصر ضعف العالم الثالث، وترتكز هذه التحالفات أساساً على منح هذه الدول مزايا اقتصادية، وتلعب دول العالم الثاني – وفقا لرؤية (كهانا) – دوراً محورياً في العلاقات الدولية، حيث تقف على نقاط التماس بين الإمبراطوريات المتنافسة، ويمكنها أن تلعب دورا في ترجيح كفة إمبراطورية على الأخرى، وهي من ناحيتها، تحتفظ بعلاقات جيدة مع أكثر من إمبراطورية من أجل الحصول على أكبر قدر من المزايا الاقتصادية ([40]).
أما النشأة التاريخية للعولمة فيمكن الاعتماد لتبيان ذلك على النموذج الذي صاغه عام (1992م) عالم الاجتماع البريطاني (رولاند روبرتسون) الذي يعتبر من أهم وأقدم منظري العولمة وعمل على دراستها منذ منتصف (1960م)، ومن أوائل من وضعوا تعريفاً لها، حيث حصر المراحل المختلفة المتتابعة لتطورها عبر الزمان، ويرى أن نقطة البداية كانت بظهور الدولة القومية الموحدة التي يعتبرها نقطة تاريخية فاصلة في تاريخ المجتمعات المعاصرة، وقد وصلت العولمة إلى الوضع الحالي- بالطبع هو يقصد وضعها عام (1992م) الذي يتسم بدرجة عالية من التعقيد والكثافة بعد مرورها بخمس مراحل هي([41]):
- المرحلة الجنينية:
هي مرحلة سادت (أوروبا) منذ بداية القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن الثامن عشر وتميزت بسيادة نظرية العالم على حساب نمو المجتمعات القومية.
- مرحلة النشوء:
تلت المرحلة الجنينيّة واستمرت حتى عام (1870م)، فقد شهدت تبلوراً أكبر للعلاقات الدولية وزادت الاتفاقيات الدولية، وبرغم إنها سادت في (أوروبا) إلا أنها واجهت مشكلة قبول المجتمعات غير (الأوروبية) في المجتمع الدولي.
- مرحلة الانطلاق:
بدأت من عام (1870م) حتى العشرينات من القرن الماضي، وتم فيها دمج المجتمعات غير (الأوروبية) في المجتمع الدولي، وكذلك صياغة الأفكار الخاصة بالإنسانية التي ترافقت مع حدوث تطور هائل في عدد وسرعة الأشكال الكونية للاتصال، وخلال هذه المرحلة حدثت الحرب العالمية الأولى ونشأت عصبة الأمم المتحدة.
- الصراع من أجل الهيمنة:
استمرت هذه المرحلة من العشرينات حتى منتصف الستينات ونشأت خلالها خلافات وحروب كونية برز خلالها دور الأمم المتحدة بشكل جلي.
- مرحلة عدم اليقين:
بدأت منذ الستينات للآن، تم خلالها إدماج العالم الثالث بالمجتمع العالمي والتطور (التكنولوجي) الكبير في المعمورة وكذلك الحرب الباردة، وتعقدت المفاهيم الخاصة بالأفراد لاعتبارات؛ الجنس والسلالة وزاد فيها الاهتمام بالمجتمع المدني العالمي والمواطنية العالمية.
يلاحظ مما سبق أن مسألة فهم مصطلح العولمة بشكل شمولي يتطلب التركيز على مضمونها التاريخي، فقد قلت الأهمية النسبية للدولة القومية والتمحور الفردي عبر العصور لصالح عالمية الفكر والاقتصاد الدوليين، والذين ترافقا بشكل كبير مع التطور التقني الذي شهده العالم وخاصة (أوروبا) و(الولايات المتحدة الأمريكية)، فيما بعد وكذلك مع تطور أنماط الاتصال والمواصلات بين أجزاء المعمورة كلها، وكان هناك جانب آخر في غاية الأهمية ترافق في تطوره مع ما سبق، وهو الجانب الإنساني، غير أن تلك المجهودات اصطدمت في معظم الأحيان بالنزاعات والحروب التي عصفت بالعالم، فكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية في القرن الماضي، ومئات النزاعات الإقليمية الأخرى، التي كان للاختلافات العرقية والعقائدية ولاعتبارات التاريخ والجغرافيا الدور الأساسي في ظهورها.
كما أن التعرض لمفهوم العولمة لا بد أن يترافق مع بعض الاستحقاقات الاقتصادية المرافقة التي برزت بعد تفكك المعسكر الشرقي في بداية التسعينات من هذا القرن، واختلال معادلة توازن القوى في العالم وخاصة الاقتصادية منها، وهذا أبرز ما يسمى القطبية الأحادية (الأمريكية) ، وهذه الاستحقاقات هي:
- النظام النقدي العالمي بإدارة صندوق النقد الدولي.
- النظام الاستثماري العالمي بإدارة البنك الدولي.
- النظام التجاري العالمي بإدارة منظمة التجارة العالمية.
والمقصود ببروز هذه الأنظمة الثلاثة هو تسارع فعالية أدوارها في القدرة على التأثير في الاقتصاد العالمي وفي اقتصاديات دول الجنوب، أي أن سيادة فكرة العالم القرية اليوم تدعمه القدرة الاقتصادية المؤثرة من دول الشمال وخاصة (الولايات المتحدة الأمريكية)، حيث ترسم هذه الدول سياسات الأنظمة الاقتصادية الثلاث سالفة الذكر جنباً إلى جنب مع ما تم ذكره من متطلبات أخرى، كتسارع التطور (التكنولوجي) وأنظمة الاتصال والمواصلات، والتأكيد النظري على أهمية البعد الإنساني في العلاقات الدولية.
ومما ساهم في تسارع بلورة العولمة كحالة يعيشها العالم الآن هو تنوع مجالات الاستثمار ومن ثمَّ تنوع أنماط الإنتاج السلعي في دول العالم التي تقابل حاجات المستهلكين في دول العالم لا سيما تلك تعاني من ضعف القاعدة الإنتاجية، وهي أسواق رائجة لتلك المنتجات مهما ابتعدت المسافات بينها وبين الدول المنتجة، كما أن بعض الدول المستهلكة تعاني من ارتفاع الكثافة السكانية وما يجعلها مصدر جذب للاستثمارات الأجنبية وبالتالي انتقال رؤوس الأموال الأجنبية إليها بهدف تحقيق الأرباح للمؤسسات متعددة الجنسيات دون النظر لاعتبارات مصلحة هذه الدولة.
ولا بد من التمييز بين مصطلحين متداخلين هما: العولمة والعالمية، فقد بدأت فكرة العالمية تتبلور انعكاساً لميثاق (الأطلنطي) الموقع بين كل من (بريطانيا) و(أميركا) في آب من عام (1941م)، والذي نادى آنذاك بإنشاء هيئة عالمية، تلا ذلك لقاءات واجتماعات في (موسكو) و(مالطا) و(الولايات المتحدة الأمريكية)، حيث تمت الموافقة على هذا المشروع بالإجماع في حزيران من عام (1945م)، حين ظهرت العالمية بصورة هيئة دولية هي الأمم المتحدة التي كانت انعكاساً للوضع السائد آنذاك من انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية الذين فرضوا إرادتهم على الدول المهزومة، وعلى العالم بأسره، غير أن أهمية العالمية بدأت بالانحسار والتراجع ابتداءً من اندلاع الحرب الباردة حتى الآن.
إن خمس دول هي (الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا) تمتلك بمجموعها (172) شركة من أصل أكبر (200) شركة متعددة الجنسيات تسيطر على الاقتصاد العالمي([42])، وهذا يدل بوضوح على أن كبرى الشركات العالمية توجد في الدول الصناعية التي تتميز بتسارع معدلات النمو الاقتصادي وهي تحتكر (التكنولوجيا) المتقدمة وأساليب الإنتاج ووسائله الحديثة، بمعنى أن بقية دول العالم هي في واقع الأمر بحاجة ماسة ومستمرة لهذه المؤسسات التي يتعذر وجود بدائل محلية لها في هذه الدول، أي أن نمط العلاقة الاقتصادية هي حاجة دول العالم المتأخرة اقتصادياً إلى الدول الصناعية وشركاتها العظمى، في حين تفرض الدول المتقدمة قيودا صارمة على هجرة قوة العمل إليها، وتقتصر ذلك على جذب الخبرات المتميزة فقط.
إن المصالح الاقتصادية المشتركة التي تخلقها وتفرضها سيرورة العولمة الاقتصادية، بشبكتها الممتدة عبر الاتفاقيات التجارية وبمساعدة من آليات العولمة (التكنولوجية) (ثورة الاتصالات، وشبكة الطرق والسكك الحديدية، وخطوط نقل الطاقة) وآليات العولمة الاجتماعية (الهجرة والسياحة وحركة العمالة)، سوف تدفع القوى المتنافسة إلى خلق التوافقات، وتكبح ميلها إلي الصراع، وتزيد من تقبل الجميع فكرة عالم متعدد الأقطاب الاقتصادية والاستراتيجية، ويحسّن من شروط اللعبة لدى الدول في العالم الثالث، ويحد من تغول العولمة أو يعطيها وجها إنسانيا على الأقل.
وقريباً من هذه الروح التي تبشر بتغير وتحول في مسلمات الأحادية القطبية وتحديث نظام تعدد الأطراف الذي فرضته عملية العولمة، يقول (روبرت ب. زوليك) رئيس مجموعة البنك الدولي في محاضرة -مهمة جداً- له في (14 /4 / 2010) في مركز (وودرو ويلسون) للباحثين الدوليين “لقد دأب طلاب الدراسات الأمنية والعلوم السياسية الدولية، لعقود طويلة، على خوض غمار المناقشة والجدل حول بزوغ نظام متعدد الأقطاب، لقد آن الأوان لأن نقرّ ونسلم بهذا الطرح الاقتصادي الجديد، وأنه إذا كان عام (1989م) قد شهد نهاية “العالم الثاني” بانهيار الشيوعية، فإن عام (2009م) هو الذي رأى مشهد النهاية لما كان يُعرف”بالعالم الثالث”: فنحن نعيش الآن في اقتصادٍ عالمي جديد متعدد الأقطاب، وماضٍ في التطور بوتيرة سريعة؛ عالم يبزغ فيه نجم بعض البلدان النامية كقوى اقتصادية، وتمضي فيه بلدان نامية أخرى قدما لترفدَ أقطاب النمو بروافد إضافية، فيما تواجه بعض البلدان الأخرى مصاعب جمة في بلوغ قدراتها الكامنة داخل هذا النظام الجديد، حيث بات الآن الشمال والجنوب والشرق والغرب نقاطاً في البوصلة، وليست مقاصد اقتصادية، فالفقر مازال مستشرياً، ولا بد من معالجة أسباب استشرائه، كما أن الدول الفاشلة مازالت قائمة، ولا بد من معالجة أسباب فشلها وتتزايد وطأة التحديات العالمية، ولا بد من التصدي لها، لكن الطريقة التي يتعين أن نعالج بها هذه القضايا آخذة في التغير، فالتقسيمات التي عفا عليها الزمن، التي تصنف بلدان العالم إلى عالم أول وآخر ثالث، ومانح ومتلق، وقائد وتابع، لم تعد مناسبة البتة.
إن آثار ومدلولات هذه التغيرات والتحولات عميقة وجوهرية؛ على صعيد تعدد الأطراف، والعمل التعاوني العالمي، والعلاقات بين القوى، والتنمية والمؤسسات الدولية فالصفائح (التكتونية) الاقتصادية والسياسية مستمرة في التحرك، ويمكننا أن نتحرّك معها، أو بإمكاننا الاستمرار في رؤية عالمٍ جديد من منظور العالم القديم، فيجب علينا إدراك الوقائع والحقائق الجديدة، ويتعين علينا أيضاً التصرف والعمل بمقتضاها ولا يمكن أن نعود إلى الوراء إلى تعدد الأطراف بالأسلوب القديم مستلهمين الحل من نمط المؤتمر الذي عقده (ميترنيخ) في (فيينا) في القرن التاسع عشر؛ لأنه أسلوب يسعى إلى مقاومة التغيير،فالجغرافيا السياسية الجديدة للاقتصاد المتعدد الأقطاب بحاجة إلى تقاسم المسؤولية مع إدراك وجهات النظر المختلفة والظروف المتباينة في الوقت نفسه، من أجل بناء مزيد من المصالح المشتركة، إذا كانت الصفائح (التكتونية)(«) الاقتصادية والسياسية آخذة في التغير، فيجب أن تشهد المؤسسات المتعددة الأطراف تغيّرات أيضا.
يريد العالم الجديد إيجاد مؤسسات قادرة على التواصل مع الشركاء في أجواء مفعمة بالتواضع والاحترام؛ مؤسساتٍ مستعدة للاستفادة والتعلّم من الآخرين؛ وقادرة على العمل كنقاط للربط والتواصل العالمي وأداء دور ريادي وطليعي في العالم الجديد للمعرفة والتعلم المشترك وتبادل الخبرات بين بلدان الجنوب والشمال، ولا يمكن التنبؤ بالمستقبل بكل ثقة وتأكيد،ولكن في مقدورنا أن نتوقع سير الاتجاهات، وإحداها أن عصر الاقتصاد العالمي المتعدد الأقطاب أصبح على مرمى البصر”([43] ).
وقريبا من حديث (زوليك) يتحدث استاذ المستقبليات والعلاقات الدولية وليد عبد الحي (2014م) عن مفهوم “الاستطراق الثقافي” قائلاً: (لو تأملنا في التوزيع الأيديولوجي والثقافي منذ القرن الماضي، سنكتشف أن الجدران التي كانت تفصل بين الأيديولوجيات أو بين الثقافات إما منهارة أو أصابها التشقق، فالدول الراسمالية تستعين “ببعض” ميكانيزمات الاشتراكية وهو ما يتضح في عودة النزعة (الكينزية) للتدخل في الاقتصاد، وظهور دولة الرفاه، وتزايد مشاركة العمال في مجالس الإدارة بينما الدول الاشتراكية وأكبرها (الصين) يصل نصيب القطاع الخاص فيها إلى (37%)، فقد دخلتها آليات الحافز الفردي، وتحرير التجارة الخارجية، وفتح المجال للاستثمار الرأسمالي، وكأننا نقف على أعتاب المركب (الهيجلي).
وعندما ننظر إلى الأحزاب الدينية – شرقا وغربا – فأغلبها بدأ يأخذ (بميكانيزمات) الديمقراطية كما هي مستخدمة في الدول الغربية أو قريب منها (التداول على السلطة الانتخاب، الشريعة مصدر رئيسي أو أحد المصادر وليس الوحيد، وقضايا المرأة والدولة المدنية، والقبول بالفن بحذر أو على مضض)، بينما نرى العلمانيين أقل ثقة بالحداثة، بل بما بعد الحداثة التي لم تعد تقبل بالتنظير بمفهومه الحتمي، في حين تضخ الجامعات نفس المنظومة المعرفية لكل طلاب العالم.
والموسيقى الغربيّة أيضاً تنهل من بعض مقامات موسيقى السود أو موسيقى الشرق، والشرق تتسلل لإيقاعاته أنغام الغرب، والأزياء والشعر والأدب، كله يتثاقف ويتسلل لبيوت بعضه خلسة أو بالطرق على الأبواب، والحياة الحضرية تخنق بقفازها الناعم حياة الريف والبداوة، فتسمع صراخ تلك الحياة، وأحيانا تختنق بصمت.
لكن المسألة ليست خطّية ولا سلمية ومراوغة، وفيها مكر من الجانبين أحيانا؛ تراها متعجلة أحياناً ومتلكئة أحيانا أخرى، تنبت الفسائل على جذعها، لكنها لا تتوقف متواصلة بدأب شديد، وتتسارع بوتيرة لم تعرفها في مراحل التثاقف القديمة منذ (شاندرا غوبتا) و(الإسكندر المقدوني) وتدعمها عولمات اقتصادية ومالية وسياسية وتستطرق مضامينها من دورق لآخر، وليس مهما أن تقبلها أو ترفضها، وانظر حولك لتراها في كل ركن من بيتك بل على جسدك.
الدكتور سعود الشرفات
مدير مركز شُرُفات للدراسات والبحوث .عمان -الأردن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1] ) الشَرَفات، سَعود، (2011) ، العولمة والإرهاب: عالم مسطح أم وديان عميقة؟ ، الطبعة الأولى ، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع –عمان.
([2]) L. Douglas Kiel, Euel W. Elliott, Edited, )1997(, Chaos theory in the social sciences: foundations and applications, The University of Michigan Press, First Ed,p2.
(« ) نظرية الفوضى: أو عدم اليقين أو الشواش : من أحدث النظريات الرياضية الفيزيائية – وتترجم أحيانا بنظرية الفوضى أو العماء- وتعتبر من أحدث النظريات التي دخلت إلى حقل العلوم الإنسانية، ويعتبر عالم الأرصاد الجوية (أدورد لورينز) أول من تحدث عن هذه النظرية عام ،(1960) ،التي تتعامل مع موضوع الجمل المتحركة (الديناميكية) اللاخطية التي تبدي نوعا من السلوك العشوائي يعرف بالشواش، وينتج هذا السلوك العشوائي إما عن طريق عدم القدرة على تحديد الشروط البدائية أو عن طريق الطبيعة الفيزيائية الاحتمالية (لميكانيكا) الكم. وتحاول النظرية أن تستشف النظام الخفي المضمر في هذه العشوائية الظاهرة ومحاولة وضع قواعد لدراسة مثل هذه النظم مثل التنبؤات الجوية والنظام الشمسي وعلم الاجتماع والسياسة واقتصاد السوق وحركة الأسهم المالية والتزايد السكاني.
([3] ) المرجع السابق، ص 2— 19.
(4)- Agnew, John, (2001),The New Global Economy : Time-Space Compression Geopolitics And Global Uneven Development ,Journal Of World-System Reserch,VII,2,Fall2001,P133-154.
(«) حسب بيليس، جون وسميث، ستيف ،(2004) ، يبحث منهج (السياسة العالمية) في السياسة والنماذج السياسية في العالم ككل لا في مجرد ما يربط بين الدول كما في عبارة السياسة الدولية ولا الحصرية كما في عبارة العلاقات الدولية التي تدرس العلاقات السياسية بين الدول. والمفيد في هذا المنهج أنه يمكّن من دراسة كافة “الأطراف الفاعلة” من الدول؛ وما دون الدول وما فوق الدول كالجماعات الإرهابية والمنظمات غير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات.(NGOS)
(5) – Baylis,John and Smith, Steve, (2001) , The Globalization Of World Politics: An Introduction To International Relations, Oxford University Press, 2nd. Ed, P 2
(6) Dreher, A. N. Gaston et al., (2008), Measuring globalization: gauging its consequences, Springer, p5
)[7]– ( Slobodan,Lekcs .(2010) , Ash delays and reroutes trans-Atlantic flights
http://news.yahoo.com/s/ap/20100508/ap_on_bi_ge/eu_iceland_volcano
([8] ) أكرمان، جوزيف،(2010) ،إيجاد التوازن بين الدولة والسوق، صحيفة الغد الأردنية بالتنسيق مع (بروجيكت سنديكيت) ،ص23 و(أكرمان) هو رئيس مجلس إدارة ولجنة المجموعة التنفيذية لبنك (دويتشه الالماني)، ورئيس مجلس إدارة معهد التمويل الدولي (IIF).
([9] ) الأصبحي،أحمد،(2000)، قراءة في تطور الفكر السياسي: روادة، اتجاهاته، اشكالياته، الطبعة الأولى،عمان، دار البشير، ص 1866 – 1879.
([10] ) يرى المفكر الإسلامي السوري / محمد شحرور بأن مفاهيم: السيرورة والصيرورة والكينونة تشكل محور الفلسفة والعمود الفقري لكل الأبحاث الإلهية والطبيعية والإنسانية، وان الكينونة هي بدء الوجود، والسيرورة هي حركة سير الزمن المرتبط بالمادة (الكينونة)، أما الصيرورة والتي عادة ما يلتبس معناها بالسيرورة عند كثيرين فهي ما انتهت إلية الكينونة الاولى بعد مرورها بمرحلة السيرورة. هذا يعني أنه قبل مرحلة الصيرورة (من الفعل صار) لا بد من المرور بمرحلة السيرورة،و لا تكون الصيرورة أبداً مع عدم وجود شيء وقعت علية السيرورة. والتي تعني الفرق في التحول والتطور من: كان(الكينونة) في حالة أولى، إلى صار (الصيرورة) في حالة ثانية.ولا يقتصر الوجود على محوري الكينونة والسيرورة؛ لان هذا يعني الجمود وعدم التطور ولنتفت ظاهرة الموت لأنه صيرورة تنتج عن سيرورة التغير في كينونة الكائن الحي. انظر محمد شحرور: نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي،فقه المرأة – الوصية – القوامة – التعددية- اللباس،الموقع الالكتروني لشحرور http://shahrour.org.
([11] ) ويلتس، بيتر، (2004)، الأطراف المتخطية للحدود الوطنية والمنظمات الدولية في: بيلس وسميث (محرر) عولمة السياسة العالمية الفصل الخامس عشر، ص 604 -605.
(« ) يعرف (ويلتس) الكيان الكلّي بأنه يوجد عندما تشكل مجموعة من العناصر نظاما له خصائص محددة على المستوى الجماعي، ويعبر عن ذلك بعبارة (الكل هو أكثر من مجموع الأجزاء)، وأوضح مثال على ذلك هو الطريقة التي تقوم بها أجزاء جسم الإنسان بتكوين خصائص الكائن الحي.
([12]) هيرست، بول وطومبسون، جراهام ،(2001) ، ما العولمة: الاقتصاد العالميّ وإمكانيات التحكم، ترجمة فالح عبدالجبار، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، مطابع السياسية، العدد 273، الكويت. ص 302-304 .
([13] ) بيليس، جون وسميث، ستيف، (2004)، ص 18-23، وحنفي، حسن، (2002) ما العولمة؟ الطبعة الثانية، دار الفكر، دمشق، م ص 19-22، وإسحاق، روبرت، مخاطر العولمة، (2005)، ترجمة، سعيد الحسنية، الطبعة الأولى، الناشر الدار العربية للعلوم، بيروت، ص272-274، وبوكسبرغر، جيرالد وكليمنتا، هارالد، (1999)، الكذبات العشر للعولمة: بدائل دكتاتورية السوق، ترجمة عدنان سليمان، الطبعة الأولى، دار الرضا للنشر، ص63-174.
([14] ) عبدالله،عبد الخالق، (2002)، وآخرون، العولمة ومحاولة دمج العالم،في الإسلام والغرب:صراع في زمن العولمة، الطبعة الأولى، كتاب العربي 49، مجلة العربي، الكويت، ص92—97.
(« ) أقصد هنا باستخدام عبارة البراديم—المسلمّات Paradigm)) حسب ترجمتها إلى اللغة العربية (رغم الاختلاف على ترجمتها): نموذج إرشادي قياسي ينظر إلى العلم كفعالية إنسانية ذات طبيعة تقدمية مطردة والنظر إلى ظاهرة العلم وغيرها من الظواهر في العلوم الإنسانية في ضوء تطورها عبر التاريخ،وبدء دورة جديدة أكثر تقدما؛ بمعنى الانتقال الثوري من براديم قديم إلى أخر جديد بما يحمله من تغيرات وتحولات. ولقد كان الفيلسوف الأمريكي المتخصص في للعلوم الطبيعية / توماس كون T.Kuhn)) ( 1922 -1996 ) أول من استخدم هذا المفهوم في إطار تفسيرة لتاريخ العلم على أساس مفهوم الثورة التي هي انتقال من مسلمة إلى أخرى، وذلك في كتابه، بنية الثورات العلمية”،(1962)، انظر الكتاب: ترجمة شوقي جلال،سلسلة منشورات عالم المعرفة 168، الكويت ( 1992) .
([16]) إلياد، مرسيا، (1988)، المقدس والمدنس، ترجمة عبد الهادي عباس،دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع – دمشق، الطبعة الأولى، ص 60-62.
(« ) يرى مؤرخ الأديان(مرسيا إلياد) بأن عبارة(العالم) = (الكون) على السواء تستخدم في عددٍ من لغات أهل البلاد الأصليين (الهنود الحمر) في أمريكا الشمالية بمعنى السنة. فيقول شعب (اليوكوت)”مرً العالم” لكي يعبروا عن انقضاء عام” أما بالنسبة لشعب (اليوكي) فإنه يستدل على”ألسنة”بعبارات”أرض”أو”عالم”. أنهم يقولون مثل (اليوكوت) مرت الارض عندما ينقضي عام، ويقول(إلياد) إن هذا التضامن الكوني – الزمني هو من طبيعة دينية… انظر للمزيد حول هذه النقطه كتاب إلياد في المرجع أعلاة.
([17] ) Scholte, Jan Aart, (2001), p14-27.
(« ) لمزيد من التوضيح حول المعاني الملتبسّة مع مفهوم العولمة، انظر الهامش – المرجع أعلاه (جان أرت شولت) باللغة الإنجليزية ص 14– 30.
([18] ) روبرتسون، رولاند، (1998)، العولمة – النظرية الاجتماعية والثقافة الكونية، ترجمة أحمد محمود ونورا أمين، مراجعة محمد حافظ دياب، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، ص 134 -135.
([20]) Malta Summit ,)2010,( From Wikipedia, the free encyclopedia from:
http://en.wikipedia.org/wiki/Malta_Summit
([21]) هنتنغتون،صموئيل،( 1999)، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة مالك عبيد أبو شهيوة،ومحمود محمد خلف، الطبعة الأولى، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا ، ص238.
([22] ) سكوت،لين،(2004)، التاريخ الدولي (1945-1990)، الجزء الرابع، في: بيليس، جون وسميث، ستيف (محرران)، الطبعة الأولى، عولمة السياسة العالمية،ص176 –178.
([23] ) بيليس وسميث ،(2004)، ص29.
[24] –Scholte , Jan Aart , (2001),p 28
[25]– الأصبحي ،أحمد ،(2000)، قراءة في تطور الفكر السياسي : رواده ،اتجاهاته ،اشكالياتة ، ،الطبعة الأولى ، دار البشير –عمان الأردن ،ص 1866 – 1879 .
([26] ) سايمون ، ميردين ، (2004) ،الصراع الثقافي في العلاقات الدولية : الغرب والإسلام ، في بيلس وسميث ، الجزء التاسع عشر ، ص 790
)[28] ( Wikipedia, the free encyclopedia , http://en.wikipedia.org/wiki/Samuel_P._Huntington
([29] ) هنتنغتون ،صموئيل ، (1999) ،صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي ، ترجمة مالك عبيد أبو شهيوة ،ومحمود محمد خلف ، الطبعة الأولى ، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان ، ليبيا ، ص 368.
30) –(Huntington, (1998), The Clash of Civilizations and the Remaking of the World Order.
31 – Kellner,Douglas.(2007), Globalization, Terrorism, and Democracy: 9/11 and its Aftermath, in Rossi, Ino (eds.), Frontiers of Globalization Research: Theoretical and Methodological Approaches( Springer London, Limited), pp246-249. And Cox ,Robert .(2000)،Political Economy and World Order: problems of power and knowledge at the Turn of the Millennium, in Stubbs and Underhill, G(eds.), political Economy and changing Global Order, second edition(Oxford University Press Canada p35.
(32) بندر، توماس ،(2006) ، نظرات حديثة للتاريخ الأمريكي لعصر العولمة، مجموعة باحثين في العولمة ، ص3، .Www.Rezgar.Com/Debat.
([34] ) فوكوياما، فرنسيس ،(2006)،: ولماذا لا أغير رأيي،عن صحيفة لوس أنجلوس تايمز،الرأي،العدد 12982، ص32
([35] ) فوكوياما، فرنسيس، (2006)، شماتة الاوروبيين بأميركا عن الغارديان،العرب اليوم،العدد 3212، ص10
([36] ) ستيفنز، فيليب، (2007)، الجيش البريطاني بين البصرة وهلمند: من الرمضاء إلى النار، الانديبندت،ص 1 .
([37] ) جيمس،غارفي (2010) ،افلاطون وجمهوريته ،ترجمة أحمد ابراهيم العتوم، صحيفة الرأي الأردنية .
([38] ) بيليس ،سميث ،(2004)،ص 18.
([39] ) كارن أبو الخير،(2009)، مجلة السياسة الدولية العدد 177يوليو،المجلد 44،ص 70- 76.
(41)Roland Robertson,,(1992) Globalization: Social Theory and Global Culture London: Sage http://books.google.com/books? And Roland Robertson, From Wikipedia, the free encyclopedia, from:http://en.wikipedia.org/wiki/Roland_Robertson)،201042)(–[41] (
([42] ) محمد عابد الجابري ،(1997) ، قضايا الفكر المعاصرالعولمة- صراع الحضارات-العودة إلى الأخلاق-ا لتسامح-الديمقراطية ونظام القيم- الفلسفة المدنية ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ،ص140.
(« ) المقصود بالصفائح (التكتونية) البناء أو الطبقات.ويأتي المصطلح هنا من علم (الجيولوجيا) والزلازل،وأصل كلمة (تكتوني) من اللغة (الأغريقية) وتعني البناء.
([43] ) زوليك، روبرت .ب ،(2010)، أهي نهاية ما يعرف بالعالم الثالث؟ تحديث نظام تعدد الأطراف لعالم متعدد الأقطاب ، على موقع البنك الدولي ص 1-9، يلقب (زوليك) بقيصر العولمة (الأمريكية) .ويمكن العودة إلى محاضرتة المهمة على موقع الرسمي للبنك الدولي بأللغتين العربية و(الإنجليزية) http://web.worldbank.org .