يُعد مفهوم العولمة معيارياً(Normative)؛ بمعنى أن هناك تفسيرات مختلفة ومتباينة حول تعريفة وكيفية مقاربته بين وجهات النظر المختلفة والنظريات المسيطرة في حقول النظرية السياسية والعلاقات الدولية والسياسة العالمية.
والعولمة؛ سيرورة ملتبسةٌ جداً لها أبعاد وآليات ومؤشرات مختلفة وتفسيرات كثيرة وتعريفات أكثر، وهذا ما يجعل منها مجالاً خصبا للمقاربات المتضاربة والمختلفة، غير أن أبعادها وآلياتها (التكنولوجية) هي العنصر الأكثر تأثيراً والقاسم المشترك في كافة الأبعاد وقوة الدفع النفاثة المتخطية للحدود القومية للظاهرة.
وترتبط العولمة بكثير من المعاني السلبّية في الذهن، وتلتبس بقضايا سلبية أخرى خاصةً حين تقرن تعسفاً بنظرية المؤامرة ولتكون (أيديولوجيا) اقتصادية؛ سياسية – حربية خالصة لتوصف (بالأمركة) خاصة في المنطقة العربية ودول العالم الثالث أو الأطراف، ولقد عبر عن هذا الموقف، أُحادي النظرة، الكاتب والأديب المعروف أمين معلوف عندما تساءل في روايته الأخيرة من القرن الأول بعد بياتريس قائلا “هل العولمة شيء آخر غير الأمركة؟ ألن تكون إحدى عواقبها فرض لغة واحده، ونظام سياسي واقتصادي واجتماعي واحد؟ وأسلوب عيش واحد، وسلم معايير واحد، أي تلك التي تخص الولايات المتحدة (الأمريكية) وإذا سلمنا بما يقوله البعض، فظاهرة العولمة لا تغدو عن كونها قناعاً وتمويها وحصان طروادة تخفي وراءها محاولة للسيطرة على العالم”.
لكن الواقع والمؤشرات الكمّية (الأرقام والإحصائيات) المعتمدة لقياس الظاهرة منذ (2001م) تنفي ذلك جملة وتفصيلاً، وتؤكد أن (أمريكا) لم تكن في يوم من الدول الأكثر عولمة في العالم، أو الأكثر رفاهية في العالم؛ وليس بمقدورها السيطرة على حدودها الخاصة، فكيف بالسيطرة على العالم؟ لا بل إن مُنظراً مهما ًمثل (إمانويل فالرشتاين) يحاجج منذ الثمانينات من القرن الماضي أن (أمريكا) فقدت هيمنتها وقدرتها في السيطرة على الوضع العالمي وبتسارع منذ (1970م) وخاصة خلال فترة رئاسة (جورج دبليو بوش)، إضافة إلى ذلك أنها استمرت رغماً عنها بالتراجع وما زالت وإن ببطء شديد خلال فترة رئاسة (باراك أوباما) خاصة في فترة ولايته الثانية.
ولعل هذا الشعور بالقلق والخوف من العولمة عائد في جزءٍ كبير منه إلى الرهبّة والشعور بالضياع، وفقدان الأمل ومعنى الوجود الذي يتركه التسارع الكبير في سيرورة هذه الظاهرة، ومقدار العنف والقسوة والفوضى والمخاطر والقلق العميق الذي تذهب به التغيرات التي تتركها في الزمان والمكان، وفي كل مجالات الحياة، وكذلك نظرة الناس إلى العالم وإلى أنفسهم، وهي سيرورة ولدت من رحم غربي وثقافة ومنظومة معرفية غربية واسعة وعميقة جداً، مع التأكيد على أن (الجينولوجي) و(الإبستمولوجي) لها لا ينفي أنها تشربت بثقافات واستفادت من حضارات مختلفة ومتعددة عبر سيرورة التاريخ.
الأمر الآخر هو أن العولمة ارتبطت بكثير من القضايا السلبية في العالم، ولعل من أهمها دورها في عملية التفتيت في البنى الثقافية الاجتماعية الأمر الذي أدى في النهاية الى نشر الفوضى والعنف والتطرف والإرهاب العالمي المتخطي للحدود الوطنية.
لذلك نحن نلقي الضوء عليها هنا في هذا الكتاب بهدف تمحيصها والتدقيق فيها، علما بأنني قد توصلت سابقا في دراسة أكاديمية متخصصة ونشرت في كتابي: العولمة والارهاب: عالم مسطح أم وديان عميقة؟ (2011م و 2015م) أن هناك علاقة إيجابية متبادلة بين العولمة والارهاب؛ بمعنى أن العولمة ساهمت مساهمة كبيرة جدا في انتشار ظاهرة الارهاب؛ ثم أن الارهاب ساعد في انتشار العولمة ولكن بنسبة أقل من تأثير العولمة.
وهناك فرضية حديثة لدي هنا، هي أن الإرهاب الذي أعنيه في هذا الكتاب بوصفه عنفاً سياسياً تقوم به الأطراف الفاعلة من غير الدول متجسداً في التنظيمات والجماعات الإرهابية أخذ بالتشكل والتموضع بشكل حاد وواضح جدا في السياسة العالمية اليومية كأداة سياسية تستخدمه الأطراف الفاعلة من الدول لتحقيق أغراضها وأهدافها السياسية، الأمر الآخر؛ هو درجة التحولات في بنية وسلوك هذه الأطراف وهي تشهد التحول من طرف فاعل دون الدولة (جماعة، تنظيم) إلى محاولة التحول إلى طرف فاعل من الدول (إمارة، خلافة) تملك ارض وأسلحة متطورة مثل الصواريخ والطائرات والدبابات وتفرض الرسوم والجمارك ولها عملة للتداول ، ولعل هذا ما أدى في النهاية الى خطورة الأمر متجلياً أولاً في طالبان باكستان وجبهة النصرة، وإعلان خلافة (داعش) في سوريا والعراق وليبيا وخلافة بوكو حرام في شمال شرق نيجيريا بزعامة قائدها أبو بكر شيكاو.
خلاصة القول؛ إن سيرورة العولمة تتضمن دمج وترابط مشكوك فيه ويخضع للفحص والتحليل مع تطور وتسارع وتيرتها على المستوى ( التكنولوجي ) والاقتصادي وفي المقابل تشظٍ وتفتيتٍ حاد وواسع وعميق على المستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي، ويبرز التطرف والإرهاب الذي تمارسة الأطراف الفاعلة ما دون الدول؛ كداعش والنصرة و(بوكو حرام) كأخطر نتيجة وصلت إليها عملية التفتيت تلك، ويؤكد ان الإرهاب هو الثمرةُ المتعفّنةُ لسيرورة العولمة حسب توصيف المنّظر السياسي الامريكي ( بنجامين باربر) .
الدكتور سعود الشرفات
مدير مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والارهاب -عمان الأردن