تبدو صورة الإرهابي الأولية ثم هويته المُتشكلة معقدة ومشتتة جداً بين هويات يصنعها له الآخر؛ وهوية -ربما- يريدها لنفسه. ثلاث هويات وصور مكثفة: حقيقية وفعلية ومرغوبة، كلها تتصارع عقب تنفيذه للعمل الإرهابي.
كيف ينظر الآخر إلى الإرهابي، وكيف يبدو في عين الآخر بعد أن ينفذ عمليته الإرهابية ويوصم فعله بالإرهاب، ثم تبدأ وسائل الإعلام المختلفة بالحديث عنه وعن عمليته الإرهابية؟
لقد كنتُ؛ وما زلتُ أعتقد أنّ ظاهرة الإرهاب المعاصر، بكل تجلياته وتمظهراته القومية والدينية المسيطرة الآن، إحدى أهم تجليات سيرورة العولمة وحاملتها الرئيسة التكنولوجيا الحديثة في المواصلات والاتصالات ووسائل الإعلام المختلفة وشبكاته المعقدة والكثيرة للتواصل الاجتماعي.
لقد جذب انتباهي، كمتخصصٍ ومتابع منذ ثلاثة عقود لسيرورة العولمة وظاهرة الإرهاب المعاصر؛ الصورة المكثفة والواسعة، والهوية الأقرب إلى الرومانسية التي يوصف بها الإرهابي، خاصة بعد أن ينفذ عملية إرهابية فيقْتُل؛ ويُقتَل أو يُعتقَل.
يضطلع برسم هذه الهوية ، التي تغذيها وتنشرها بتسارعٍ وتكثيف كبير آليات العولمة التكنولوجية عبر وسائل الاتصال والإعلام، أولاً: الدائرة الضيقة والمحيط القريب من الإرهابي؛ عائلته، أصدقاؤه الحقيقيون والافتراضيون على الشبكة، وجيرانه وزملاؤه في العمل أو الهوايات المشتركة، وفي بعض الأحيان الأجهزة الاستخبارية التي تراقبه سواء بشكل دائم وحثيث، أو تضعه على قائمة المشتبه بهم فقط.
ظاهرة الإرهاب المعاصر، بكل تجلياته وتمظهراته القومية والدينية المسيطرة الآن، إحدى أهم تجليات سيرورة العولمة، وحاملتها الرئيسة التكنولوجيا الحديثة
هذه الدائرة تضطلع بصناعة ورسم هوية أقرب ما تكون إلى “الهوية المرغوبة” في مقابل الحضور الطاغي للهوية الفعلية للإرهابي؛ كإرهابي نفّذ عملاً إرهابياً على أرض الواقع.
تأخذ هوية الإرهابي وصورته، كما تنقلها لنا وسائل الإعلام والتواصل المختلفة على لسان ممثلي هذه الدائرة على نحو قريب من السذاجة الرومانسية على وقع الصدمة والمفاجأة والإنكار وعدم التصديق المشوب بالحيرة بناء على تجليات متنوعة لهوية فعلية كان يظهر بها الإرهابي في عيونهم بأنه: شخص مسالم، هادئ ووديع، قليل الكلام والاختلاط، يعاني من بعض المشاكل النفسية، ومشاكل في العمل، لم يكن متديناً لا يصلي ولا يصوم، ولا يذهب إلى المسجد، ولا يشارك في المناسبات العامة ولم يكن تظهر عليه علامات التطرف بأي شكل، والكثير المتنوع من التفصيلات الخاصة والدقيقة والحساسة جداً، سيما تلك التي يتولى عرضها أفراد عائلة الإرهابي.
هنا تظهر هوية الإرهابي في غاية التعقيد والتمزق بين هوية حقيقية، وأخرى فعلية، وهوية مرغوبة قريبة من “هوية متخيلة”، حسب بندكت أندرسون، لكن باختلاف أنّ هذه الهوية الحديثة -هوية العالم الافتراضي – برزت كأحد أهمّ تجليات سيرورة العولمة وآلياتها التكنولوجية في الاتصالات والتواصل على مواقع مثل؛ فيسبوك وتويتر، وواتس أب، وتيليجرام.
ثانيا: الدائرة الأوسع والمحيط البعيد من الإرهابي.
أعتقد أنّ الأكثر أهمية في هذه الدائرة هي الأجهزة الاستخبارية ووحدات مكافحة التطرف والإرهاب فيها، ثم وسائل الإعلام ورجال الدين، والصحفيين والمحللين والخبراء في مختلف التخصصات التي تهتم بظاهرة الإرهاب المعاصر اليوم.
وأرى أنّه بفعل العولمة التكنولوجية يحدث نوع من التماهي بين الدائرتين؛ حيث يغدو من الصعب الفصل بينهما؛ لأن أهم تجليات العولمة اليومية هو ذوبان صمغ الحدود بين الفضاء العام والخاص حتى أن هذا التماهي يؤدي في النهاية إلى تشكيل صورة واحدة لكنها هجينة لصورة الإرهابي.
وسواءً أكانت صورة الإرهابي في بلد عربي أو أي مكان في العالم؛ أوروبي أو أمريكي فإنّ هناك عدداً من الملاحظات السريعة والأولية التي تبدأ بالظهور لوصف وتعريف هوية الإرهابي من قبل الآخر.
تنقل لنا وسائل الإعلام، صورة ساذجة ورومانسية للإرهابي على وقع الصدمة والإنكار بناء على تجليات متنوعة لهوية فعلية كان يظهر بها
مع ضرورة الإشارة إلى أنّ الكثير من هذه الملاحظات رصدتها من الفضاء الأوروبي والأمريكي خاصة بعد سلسلة العمليات الإرهابية التي نُفّذت عن طريق ما بات يُتعارف عليه في أدبيات الإرهاب المعاصر بإرهاب “الذئاب المنفردة” والذي تبنّاه تنظيم داعش منذ العام 2014م. وهذه الملاحظات هي: الشعور الساذج بالمفاجأة والصدمة من قبل الأجهزة الأمنية. وهو ما سبق وصفته في مناسبات أخرى تحت متلازمّة (الذئب المنفرد والراعي النائم) بمعنى أن الراعي يعرف ّأن الذئب لا يحترم الراعي البتّه، كما أنّه لا يشفق على النعاج وبهمها الصغير الوديع، مع ذلك ينام الراعي قرير العين حتى يعدو الذئب ويوغل افتراساً في القطيع ثم يصحو متفاجئاً متفجعاً من هول ما حدث.
هذه المتلازمّة تجلت بشكلٍ واضحٍ وواسع جداً في كل العمليات التي جرت في السنوات الأخيرة في أمريكا وأوروبا، وفرنسا تحديداً، التي أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عنها. ويكفي للتدليل على ذلك العودة للتصريحات والخطابات والمؤتمرات الصحفية للساسة ورجال الأمن الفرنسيين بعد كل عملية إرهابية؛ حيث نجد أنّ الجملة المرعبة والصادمة التي تتردد عند الكل منهم هي: يبدو أنّ هذا الإرهابي قد تطرف دينياً في فترة وجيزة بفعل دعاية تنظيم داعش – أو غيره – من خلال شبكات التواصل الاجتماعي!
وأمام تجليات العولمة التكنولوجية المذهلة مثل؛ أنّ هناك (100) مليون ساعة مشاهدة فيديو عبر موقع فيسبوك وحده عام 2016م يقف الإنسان العادي، والخبير، والمحلل، ورجل الأمن مشدوهاً وسط هذا العالم الذي يتشكل ويصنع وتنغمس به الهويات وتتمزّق بين الفعلي والحقيقي والمرغوب فلا يجد بدّاً من اللجوء الى حيلة “الخداع المعرفي”، والركون إلى تحديد هوية الإرهابي الفعلية وكفى، ليهرب من وزر الإخفاق والفشل الأمني- الاستخباري في فهم الهوية الحقيقية للإرهابي، والهروب من رسم أيّ هوية مرغوبة للإرهابي سواء أكانت إيجابية أو سلبية.
- سبق أن نشرت المقالة في موقع حفريات