د. سعود الشرفات*
مكّنت سيرورة العولمة الأفراد والجماعات من الحصول على آلياتٍ وأدواتٍ للتأثير في المجتمعات المعاصرة وفي السياسة العالمية، مساوية تقريبا للدول والحكومات القائمة الآن، هذا إن لم يكن أكثر من الدول في بعض الأحيان.
وأعتقد أن من أهم الآثار وأعظمها عمقا في السياسة العالمية في حقبة العولمة الحالية، تعاظم الأدوار التي تلعبها الأطراف الفاعلة من غير الدول، ممثلة بأدوار أفراد معزولين مجردين إلا من آليات العولمة التكنولوجية، وبالذات شبكة الإنترنت، وبقية وسائل التواصل الاجتماعي، عبر ما يطلق علية “الحركة الهاكرّية العالمية” (Cypherpunk)، والتي بدأت منذ أواخر العام 1980، أي مع البدايات الأولى لانطلاقة سيرورة العولمة الحديثة التي تركز على أهم المواضيع التي تتعلق بالدول، وعلى صعيدين، هما: بنية الدول، وسلوك الدول في المجالات التالية:
– الخصوصية للأفراد والجماعات.
– الرقابة الحكومية على الأفراد، وحرية النشر والصحافة والإعلام، وكل ما يتعلق بالخصوصية والحرية الفردية.
– السيطرة على المعلومات وحرية انسيابها.
ولنستعد الأدوار التي لعبتها أطراف فاعلة من غير الدول أو الجماعات أو المنظمات التي أعتقد أنها جزء مهم في هذه الحركة؛ مثل الأسترالي جوليان بول أسانج، مؤسس موقع “ويكيليكس” (2006)، واللاجئ السياسي في سفارة الإكوادور في لندن، والذي وصفه المسؤولون الأميركيون بالإرهابي. إذ اعتبره نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، إرهابيا تقنيا. فيما وصف الرئيس السابق لمجلس النواب الأميركي نيوت غينغريتش، العمليات التي قام بها بأنها إرهاب معلوماتي، وذلك عقب قيامه بتاريخ 28/ 11/ 2010 بتسريب ما مجموعه 251 ألف وثيقة سرية لوزارة الخارجية الأميركية، كاشفاً كثيراً من الأسرار في مختلف دول العالم، خاصة أسرار الحرب في العراق وأفغانستان. حتى إن بعض المراقبين السياسيين زعم -وقد تكون في ذلك مبالغة كبيرة- أن هذه الوثائق كانت وراء شرارة ثورات “الربيع العربي”.
وهناك الدور الذي لعبه الجندي الأميركي برادلي ميننغ، الذي زوّد أسانج بالوثائق. والدور الذي لعبه الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية (NSA) إدوارد سنودن، في نهاية العام 2013، عندما سرب لوسائل الإعلام تنصت الوكالة واسع النطاق على المكالمات الهاتفية، واتصالات كثير من رؤساء الدول في العالم، ما ساهم في خلط المشهد العالمي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافيا، ودفع (في كانون الأول (ديسمبر) 2013) عدداً من مثقفي وكتاب العالم الحائزين على جائزة نوبل، مثل غونتر غراس واورهان باموك، إلى وصف عملية التنصت بأنها إساءة وانتهاك منظم للحريات الشخصية وحرية الأفكار والآراء، وناشدوا الأمم المتحدة إصدار تشريع للحقوق الرقميّة.
وفي مقابلة -بثت مقاطع منها- مع شبكة “سي. بي. أس. نيوز” (1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013)، اعتبر مايكل موريل الذي كان يشغل منصب نائب مدير وكالة المخابرات المركزية (سي. آي. إيه) تسريبات سنودن أخطر عملية تسريب لمعلومات سرية على الإطلاق في تاريخ المخابرات (الأميركية)، وأن أخطر ما سربه هو الميزانية المفصلة لكل وكالات الاستخبارات الأميركية، والمسماة “الميزانية السوداء”؛ إذ إن تسريبها “يتيح لمنافسي الولايات المتحدة تركيز جهودهم في ميدان مكافحة التجسس على المجالات التي ننجح فيها وعدم إيلاء كثير من الاهتمام للمجالات التي لم نحقق فيها أي نجاح”. وأنه “وضع الأميركيين في خطر أكبر، لأن الإرهابيين يتعلمون كثيرا من هذه التسريبات، وسيكونون أكثر يقظة، ولن تكون لدى المؤسسات الاستخبارية والأمنية الأميركية المعلومات الاستخبارية التي كانت تحصل عليها لو لم تقع هذه التسريبات”.
ونقلاً عن تسريبات سنودن، أكدت صحيفة “واشنطن بوست” على موقعها الإلكتروني (30/ 10/ 2013)، أن الوكالة الأميركية للأمن القومي تجسست على بيانات مئات الملايين من مستخدمي محركي البحث “غوغل” و”ياهو” من خلال البرنامج المسمى “موسكولار”، الذي يعمل مع النظير البريطاني (للوكالة الأميركية)؛ القيادة العامة لاتصالات الحكومة. وهو ما أتاح لهاتين الوكالتين الاستخباريتين جمع معلومات من خلال الألياف البصرية التي يستخدمها عملاقا الإنترنت. واستناداً إلى وثيقة نشرتها الصحيفة ذاتها، ويعود تاريخها إلى 30 كانون الثاني (يناير) 2013، “تم جمع نحو 181 مليون عنصر معلومات خلال الأيام الثلاثين السابقة على هذا البريد، بدءاً برسائل بريد إلكتروني إلى نصوص أو وثائق سمعية أو فيديو”.
إن الأدوار التي لعبها هؤلاء الأفراد، وتداعيات وتأثيرات ما قاموا به من خلال ظاهرة “الهاكرية”، يفوق التصور والخيال. وأزعم أن هذه التداعيات ستؤثر في المشهد العام لسيرورة العولمة، والاتجاهات المستقبلية لظاهرة الإرهاب وطرق مكافحته، وبنية الدول وسلوكها، ومستقبل العالم في القرن المقبل، وذلك من منطلق أن آليات العولمة التكنولوجية (الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي) جاءت لتحرر البشر وليس السيطرة عليهم.
ولذلك، كلما اندمج الإرهابيون مع آليات العولمة التكنولوجية وزادت أهمية الأطراف الفاعلة من غير الدول مثل الجماعات الإرهابية، وسَهُل وقل عدد المنفذين وأصبح بمقدور شخص واحد تنفيذ أعمال إرهابية واسعة التأثير والانتشار وتحولت التكنولوجيا إلى بديل للملهم البشـري الذي يتمثل في الشيخ أو القائد أو المعلم أو المدير، وزوّدت المتطرفين بالعون والخبرة والتوجيه وكيفية صناعة أدوات الإرهاب المدمرة، احتدم الصراع بين الدولة والأفراد والجماعات، وأصبحت جهود مكافحة الإرهاب الدولية والعالمية عملا مضنياً وسباقاً محموما تتفوق فيه الجماعات الإرهابية على فُرادى الدول والتحالفات الدولية.
*مدير مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب
* سبق ان نشر المقال في صحيفة الغد الأردنية ، الاربعاء 17-8-2016م