الصراع الثقافي بين العالمين الغربي والإسلامي ليس صراعا دوليا؛ بل هو صراع يتعلق بالعلاقات العالمية، صراع يتخذ أشكالا عولمية، وعلى مستويات مختلفة: الدولة، وما فوق الدولة، وما دون الدولة.
والعلاقة بين الإسلام والغرب كانت وما تزال تتميز بالصراع والتنافر، ومشوبة بالحذر والشكوك والريبة. ويحفر التطرف الديني والإرهاب “الإسلاموي” المعاصر، عميقا في أرضية هذا الصراع. ولا أعتقد أن هذه العلاقة مرشحة للتغير على المستوى المنظور. لماذا؟ لأني أرى أن الكثير من المهتمين والخبراء والأكاديميين في الغرب، يركزون في مقارباتهم للتغيرات في العالم الإسلامي على مؤشرات محددة وصارمة جدا -للأسف الشديد نحن في العالم العربي والإسلامي نمر عليها مرور الكرام- كلها تقريبا ذات مضمون ديني وثقافي، مرتبطة بما يسمى ظهور الإسلام السياسي. ولذلك تراهم يرون أن التصاعد التدريجي لمد الإسلام السياسي اعتباراً من أواخر سبعينيات القرن العشرين، بدأ على النحو التالي:
– الثورة الإيرانية (1978-1979)، التي تحدثت عن الفساد الغربي، وعن الولايات المتحدة بصفتها “الشيطان الأكبر”.
– خلال تشرين الثاني (نوفمبر) 1979، استولى الطلبة الإيرانيون على السفارة الأميركية في طهران، واحتجزوا موظفيها كرهائن، وامتد تأثير الثورة في منطقة الشرق الأوسط، ما أدى إلى نشوب الحرب الإيرانية-العراقية.
– محاولة الاستيلاء على المسجد الحرام في مكة في اليوم الأول من العام الهجري 1400، من قبل “الداعي للعودة إلى الإسلام الأصولي” جهيمان العتيبي. وقد لقي المئات مصرعهم في القتال الضاري الذي تلا ذلك خلال شهري تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) 1979.
– اغتيال الرئيس المصري أنور السادات خلال عرض عسكري في 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1981، على أيدي متطرفين إسلاميين في الجيش المصري (خالد الإسلامبولي ورفاقه).
– ظهور الحركة الشيعية في لبنان بعد الغزو الإسرائيلي الذي جرى العام 1982. وقد شنت حركة “أمل” و”حزب الله” حرب جهاد ضد إسرائيل والغرب، وعلى الأخص من خلال تفجير ثكنة لمشاة البحرية الأميركية في بيروت العام 1983، واختطاف طائرة ركاب تابعة لشركة “تي. دبليو. آي” العام 1985، وكذلك خطف الرعايا الغربيين في مدينة بيروت.
– تفجير طائرة ركاب تابعة لشركة “بان أميركان” فوق مدينة لوكيربي الاسكتلندية، في كانون الأول (ديسمبر) 1988، واتهم فيها النظام الليبي أيام القذافي.
– النزاع حول سلمان رشدي وكتابه “آيات شيطانية”، والذي رأى فيه المسلمون تجديفا ضد الإسلام، وأدى إلى قيام أحداث شغب معادية للولايات المتحدة في باكستان. وفي 12 شباط (فبراير) 1989، أصدر الزعيم الإيراني آية الله الخميني فتوى بقتل سلمان رشدي، كما تم تخصيص مكافأة قدرها مليون دولار مقابل حياته.
– الحرب الأهلية في الجزائر، بعدما حرم الجيش “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” من السلطة عقب فوزها في انتخابات عامة جرت في كانون الأول (ديسمبر) 1991 وكانون الثاني (يناير) 1992. وقد امتدت آثار هذه الحرب إلى فرنسا على شكل أعمال إرهابية.
– حملة الإرهاب الإسلامي الطويلة في مصر، والموجهة ضد حكومة حسني مبارك، وضد السياح الأجانب أيضا.
– الأصولية الإسلامية في أفغانستان، بعد الجهاد ضد القوات السوفيتية وغيرها من القوات التي كانت تلقى الدعم (السوفيتي)، حيث خاض المتطرفون الإسلاميون السلفيون حينها غمار حرب أهلية مع القوى الإسلامية المحافظة المرتبطة بمواقع النفوذ القبلي والصوفي، وشكل الطلبة الإسلاميون لاحقا جيشا هو حركة “طالبان”، واستولوا على معظم أجزاء البلاد.
– في البوسنة، احتشدت عصبة من المتشددين الإسلاميين (كان عددهم العام 1993، حوالي أربعة آلاف مقاتل)، بهدف القتال إلى جانب الحكومة البوسنية التي كانت غالبيتها من المسلمين.
– بعد انفصال جمهورية الشيشان (الروسية)، دخل المقاتلون الإسلاميون، بدعم من العالم الإسلامي، في صراع عنيف ومديد مع الجنود الروس.
– بروز التحدي الذي فرضه التطرف الديني والإرهاب المعاصر على أنظمة الحكم في الخليج العربي، واليمن ومصر، والأردن، وسورية، والعراق، وعبر أنحاء شمال أفريقيا. وقد عززت أعمال إرهابية ضد أهداف غربية في هذه البلدان وفي البلدان الغربية نفسها مخاوف الغرب.
من جانب آخر؛ هناك مقولة خطيرة جدا ومهمة -حسب ما أعتقد- للمنظر السياسي الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما، يدّعي فيها أن انتهاء الحرب الباردة كان قد خلف “الفكرة الليبرالية” -أي الديمقراطية الليبرالية ورأسمالية السوق، ومبدأ عالمية الشرعية لسيادة الشعب- بصفتها مشروع الإنسانية العالمي. وبناء عليه، لم ير أمامه سوى مقاومة محلية محصورة للفكر الليبرالي، تجلت بصورة رئيسة في الإسلام. وهو كما نرى قريب من وجهة النظر التشاؤمية لصراع الحضارات عند صمويل هنتنغتون.
وكان فوكوياما يعتقد أن الإسلام يمثل “أيديولوجيا منظمة مترابطة، لها دستورها الأخلاقي الخاص، وعقيدتها المتعلقة بالعدالة السياسية والاجتماعية. وربما كانت جاذبية الإسلام عالمية، يمتد تأثيرها إلى كل البشر بصفتهم بشرا. والواقع أن الإسلام هزم بالفعل الديمقراطية الليبرالية في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، مشكلا تهديدا خطيرا للممارسات الليبرالية حتى في بلدان لم يمسك فيها بزمام السلطة السياسية بصورة مباشرة. وعلى الرغم من القوة التي يظهرها الإسلام في مرحلة انبعاثه الحالية، يبقى الواقع أن هذا الدين لا يتمتع عمليا بأي جاذبية خارج نطاق تلك المناطق التي كانت ثقافتها إسلامية منذ البداية، ويبدو أن أيام غزوات الإسلام الثقافية قد انتهت. ورغم أن الإسلام هو ثاني أكبر الأديان في العالم من حيث عدد المعتنقين بعد المسيحية، إذ يبلغ عدد أتباع الإسلام 1.62 مليار نسمة، بنسبة تفوق 23 % من سكان العالم، لكن ليس “باستطاعة المسلمين تحدي الفكرة الليبرالية في أرضها على المدى البعيد، والعكس هو الصحيح”؛ تعبر هذه المقولة عن كيفية مقاربة العالم الغربي للصراع الثقافي مع العالم الإسلامي. وهي لسوء حظ البشرية لم تتغير؛ لا بل أعتقد أنها تزداد ترسخا كلما أعلن تنظيم “داعش” عن عملية إرهابية في الغرب.
– مدير مركز شرفات
الدكتور سعود الشرفات
سبق أن نشرت المقالة في صحيفة الغد الاردنية