صار من فضول القول إن الفكر الديني في الرد على المتطرفين لا يفيد إلا غير المتطرفين. أما المتطرفون، فإنهم لم ينشئوا مواقفهم بناء على فهم ديني خالص أو مستقل، أو اجتهاد ومحاولة للبحث والتفكير في التوجيه الديني، ولكنهم اختاروا من النصوص والنماذج الدينية ما يشبههم ويلائم اتجاهاتهم وحالتهم النفسية والاجتماعية.
وتصعد اليوم اتجاهات علمية تنظر إلى التطرف الديني والعنف على أنه حالة كراهية تستحضر النصوص الدينية، لكن جذور هذه الحالة يمكن ملاحظتها في نزعات العنف والكراهية والتسامح والخضوع والاكتئاب والتمرد والاحتجاج والعزلة والمشاركة والانقياد والمغامرة والنزعة إلى الانتحار والقتل والإدمان والسادية (الاستمتاع بالإيذاء) والمازوشية (الاستمتاع بتلقي الإيذاء)، أو أمراض واضطرابات نفسية وعقلية وسلوكية، مثل الانفصام والنرجسية والعدوانية والقلق والتوهم.
وأسوأ ما تقع فيه عمليات مواجهة التطرف الكراهية والعنف المنتسبة إلى الدين، الاعتقاد بأنها عمليات استجابة ميكانيكية أو تلقائية لنصوص دينية يساء فهمها أو تفهم فهما صحيحا أو خاطئا؛ ذلك أنها نصوص موجودة منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، ويفترض أن تؤدي إلى حالات متشابهة لدى أفراد مؤمنين بهذه النصوص وفي مجتمعات وبلاد لا يحدث فيها تطرف وإرهاب، ولكن أهلها يؤمنون بالنصوص الدينية نفسها التي يؤمن بها المتطرفون والكارهون. وليس المقصود بالطبع هو إعفاء فهم النصوص من المسؤولية عن الكراهية، ولكن التأكيد على أنه فهم جاء منسجما مع اتجاهات شخصية ونفسية. فالمعتقدات والأيديولوجيات ليست عمليات عقلية أو ناشئة عن مجهود علمي وفكري، وإن كانت تستند إلى تراث فكري وفلسفي أحيانا، ولكن معتقداتنا في الحقيقة تعكس شخصياتنا، أو هي جزء من هويتنا وميولنا؛ نحن ننحاز إلى المعتقدات والتأويلات التي تشبهنا.
ذكرت وسائل الإعلام، استنادا لمصادر وإحصاءات رسمية، أن 114 شخصا انتحروا في الأردن العام 2015، وبالطبع هناك حالات وفاة أخرى كثيرة لم تسجل على أنها انتحار، وهناك أيضا جرائم قتل كثيرة من النوع الذي ليس قائما على دوافع جرمية، مثل السطو، ولكنها تعود إلى أزمات نفسية أو عائلية، أو بغرض الانتقام والثأر، أو في شجار يبدأ بسيطا ثم يتطور إلى جريمة قتل. وهناك حالات محاولات انتحار لا تتم، تزيد عشرة أضعاف على عمليات الانتحار التي تمت بـ”نجاح”. أليس طبيعيا القول إن هؤلاء المئات الذين أقدموا على الانتحار أو القتل، مستعدون أو كانوا قابلين للمشاركة في عمليات انتحارية أو إرهابية؟ مؤكد بطبيعة الحال أن الذين يعيشون حالات من الاكتئاب والنزعة إلى الانتحار والتهميش والعزلة والشعور بالظلم، مرشحون تلقائيا لأن يكونوا متطرفين قساة؛ فالذي يقسو على نفسه أو المقربين إليه سيكون أكثر استعدادا للقسوة على الآخرين.
القسوة بما هي خلاصة التطرف والكراهية، تعكس في حالتها الانتقائية الفشل، والمرض العقلي في حالتها الشاملة. ولكن حين يمتلك هذا المرض العقلي تأييدا اجتماعيا كاسحا كما يحدث كثيرا في القوميات والأيديولوجيات، فإن الوباء يتحول إلى أصل أو سلوك سائد يصعب الخروج عليه. وربما يكون قريبا من ذلك ما يحدث اليوم في موجة التعصب الديني التي تحولت إلى كراهية شاملة لفئات ومذاهب وطوائف، وأنشأت عنفا شاملا ومجازر وتهجيرا بلا رحمة أو تعاطف، كما يحدث في سورية والعراق، وكما حدث من قبل في رواندا وبوروندي والبلقان وألمانيا تحت حكم النازية.
إن بناء المعتقدات ليس قائما على عمليات علمية عقلانية؛ فالعلم والعقل لا ينشِئان أيديولوجيا، ولكنها أفكار تكتسب صلابة وإيمانا عميقا بسبب اتجاهاتنا وميولنا التي نملكها بالفعل؛ إنها (المعتقدات) مثلنا، ونحن عموما نفضل ما يماثلنا، خصوصا أن المعتقدات تصبح مكونات من هويتنا، وبذلك، فإنها تميزنا وتنشئ موقفا من الآخر الذي لا يعتقد مثلنا، فيصبح ليس منا، أو مختلفا عنا، أو عدوا أو مثيرا للاشمئزاز، ثم نطور موقفنا منه (الآخر) أو اعتقادنا عنه، بأنه يريد إيذاءنا، ومن ثم يجب إزاحته أو إقصاؤه أو اخفاؤه من الوجود… فتبدو عمليات الإقصاء والإبادة كأنها دفاع ضروري عن الذات، أو هي تعكس الخوف الوهمي على وجود الذات ومصيرها.
المصدر :http://alghad.com/articles/1052342-99 صحيفة الغد الاردني
ابراهيم غرايبه / عضو الهيئة الاستشارية في المركز