ليس هناك من ظاهرة عالمية مثيرة للاهتمام والجدل في الحقبة الحالية من العولمة أكثر من الإرهاب العالمي ، سواء الإسلامي (داعش ،القاعدة ، النصرة وبوكوحرام …) أو القومي العنصري(تفوق الأمة الآرية البيضاء، والنازية الجديدة …) في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية. أو الهندوسي القومّي (الإرهاب الزعفراني: نسبة إلى لون الثوب الزعفراني، والذي يستخدمه الرهبان الهندوس كما أنه جزء من ألوان العلم الهندي). وجزء كبير ومهم من هذا الجدل يتمحور حول سؤال: هل يؤثر الإرهاب في بنية وسلوك الدول والمجتمعات؟
هناك طريقتان لمعرفة وقياس حجم الإرهاب وتأثيراته المختلفة في بنية وسلوك الدول والمجتمعات؛ الأولى: وتركز على أربعة مؤشرات إحصائية هي: عدد العمليات الإرهابية، عدد القتلى، عدد الجرحى، وحجم الخسائر في الأموال والممتلكات. وهكذا تجري الأمور في معظم الأدبيات المعروفة عالمياً، خاصة على المستوى السياسي الرسمي في أمريكا وأوروبا التي تستخدم المؤشرات الكمّية(الإحصائية) لقياس حجم الإرهاب ومدى تأثيره في بنية وسلوك الدول.
والنقد الأولي لهذه الطريقة – حسب وجهة نظري – هو أنها محمّلة بالأهداف السياسية المبطّنة بهدف التقليل من شأن تأثيرات الإرهاب وحصرها بالآثار المادية فقط والتجاوز المقصود عن الآثار المعنوية .
والطريقة الثانية هي الآثار المعنوية للإرهاب . وقد يبدو أنه من الصعب جدّاً قياس هذه الآثار بدقة (كمياً- إحصائياً) لكنه من الصواب أيضا، عدم إغفال هذه الآثار أو التقليل من شأنها؛ لأنها تضرب عميقاً في بنية وسلوك الدول والمجتمعات.
أخطر وأسوأ المقاربات التي تعالج ظاهرة الإرهاب بشكل عام، وقضايا مكافحة الإرهاب، وقياس حجم الإرهاب ، وآثاره المجتمعية هي تلك التي يصر أصحابها ومنظروها على الاستخفاف بخطورة الإرهاب العالمي، والتقليل من شأنه ودوره في تغير سلوك وبنية الدول والمجتمعات، خاصة عندما ينظرون للإرهاب على أنه نوع من الكوارث الطبيعية، الزلازل والبراكين والفيضانات أو حتى حوادث السيارات والجريمة المنظمة وعصابات الشوارع والمهمشين وتجارة المخدرات. هنا تبرز حجج ومبررات تعتمد على الإحصائيات الرقمية والمؤشرات المُضللة كالادعاء مثلاً: أن عدد قتلى هذه الحوادث يتجاوز سنويا عدد قتلى وخسائر الإرهاب. وبناء عليه، يبني هؤلاء معظم حججهم بالتقليل من شأن الإرهاب.
كيف يغير الإرهاب في بنية وسلوك الدول والمجتمعات، وأين تتجلّى هذه التغيرات في الحياة اليومية؛ ولنأخذ كمثال هنا حال الأردن وأمريكا وفرنسا. فماذا نرى؟
الأردن قبل تفجيرات فنادق عمان (2005-11-9) الإرهابية التي أعلن تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين مسؤوليته عنها، وذهب ضحيتها (57) قتيلا وجرح (115) وخسائر وتدمير في الممتلكات في الفنادق الثلاثة : الراديسون ، حياة عمان ، وديز إن ، لم تكن هناك أجهزة تفتيش وفحص مكثف ودقيق في الوزارات والمؤسسات الحكومية، وفي الفنادق ومراكز التسوق والمولات والمطارات والمعابر والحدود البرية والبحرية لم تكن هناك أجهزة فحص وتدقيق (اكس- راي أو جاما- راي) أو تصوير وبصمة العين وفحص المتفجرات والمخدرات وتزوير الوثائق والتزييف.
وحدها؛ الهجمات الإرهابية ضد فنادق عمان؛ وأكثر من أي شيء آخر هي من غير، وإلى الأبد سلوك الدولة والمؤسسات والمجتمع الأردني وثقافته الأمنية.
ومنذ ذلك التاريخ، أصبح وقوف المواطن الأردني – بقليلٍ من التذمر والشكوى- أمام أجهزة التفتيش والتدقيق في المطارات والحدود والمعابر وعلى أبواب المؤسسات والفنادق وأماكن التسوق والترفيه أمرا مقبولاً وعادياً، بل ومطلبا يتنازل فيه عن جزء من حريته وأنفته الشخصية التي يعتز ويتميز بها مقابل الشعور بقيمة الأمن .
أما على مستوى الدولة، فإن سلوكها تغير بعمقٍ أكثر، من حيث القوانين والأنظمة وتطوير قانون الإرهاب والمزيد من الانفتاح والتعاون الدولي وتشارك المعلومات الاستخبارية السرية. ثم ما تبع ذلك من فورة في صناعة الأمن والاستثمارات الخاصة والعامة في الأجهزة والمعدات المخصصة لمكافحة الإرهاب والأمن والحماية.
أمّا في أمريكا؛ فأنا أذكر شخصياً أنه قبل هجمات 11أيلول 2001م كنا نسافر خاصة في الرحلات الداخلية للطيران، وكأنك تسافر من مجمع سرفيس العبدلي أو مجمع الجنوب في عمان في التسعينيات . تستطيع أن تسافر من ولاية إلى أخرى بتذكرة شخص آخر، وهذا الشخص من الممكن أن يكون حاصلا على تذكرة جائزة في حفل خيري أو فني.
وتستطيع العيش والسفر بحرية من الشاطئ إلى الشاطئ كما يقول الأمريكان دون أن تتعرض للسؤال عن هويتك الشخصية. لكن كل شيء تغير بعد 11أيلول، تغير سلوك الإمبراطورية بشكل ملحوظ، كما تغيرت بنية الإمبراطورية، وإن بشكل ٍ أقل، حيث أصبح لون البشرة واللغة والعادات في الأكل والملابس مدعاة للاتهام والاشتباه.
في فرنسا؛ تولّد الإرهاب وتشكّل مفاهيمياً كأحد نتائج الثورة الفرنسية، وأخذ شكله ومعناه السياسي الحديث منها.
وعلى الرغم من هالة التسامح والانفتاح والحرية التي ترتبط بالثقافة الفرنسية، والتي ترتبط أيضا بالصرامة الحادة بالدفاع عن قيم الثورة والجمهورية، إلا أنها وجدت نفسها مجبرة على تغير سلوكها، وخلخلة بنيتها من خلال إعادة النظر بهذه القيم، حتى تستطيع مواجهة الإرهاب العالمي “الثمرة الشيطانية” لسيرورة العولمة التي لا تكن لها الإنتيلجيسيا الفرنسية إلا الاحتقار والاشمئزاز.
لذلك، مددت فرنسا حالة الطوارئ الأمنية بعد هجمات باريس الإرهابية الأخيرة ، وتعيش حالة مستمرة من التأهب والتمرينات الأمنية المكثفة على مكافحة الإرهاب في مدن بوردو ونيم وسانت إتيان، استعدادا لكأس أمم أوروبا (10/6-10/7/2016م) ومهرجان كان السينمائي (11/5-22/5/2016م) وكذلك فعلت خلال فعاليات طواف باريس –نيس للدراجات الهوائية الذي انتهى أوائل شهر أيار2016م.
لأول مرة – ربما- في التاريخ البشري وفي الحقبة الحالية من سيرورة العولمة، أصبح كل شيء يخضع للتفتيش والتدقيق، وتوسعت دائرة الاشتباه والاتهام، وتم دمج البشري -والحيواني –والآلي (الموظف المدرب، والكلب المدرب على اقتفاء أثر المخدرات والمتفجرات، وأجهزة الفحص بالأشعة) معا في هذه العملية. وهنا يكمن التحول الأهم والأعمق والأوسع في حياة البشر، حيث تغيرت وبشكل متفاوت بنية وسلوك المجتمعات والدول .
هكذا يؤثر الإرهاب في عمق الحياة البشرية اليوم، ويغيرها بتسارع يتماهى مع التسارع في سيرورة العولمة التكنولوجية. إنه عمل بشري بامتياز يتمثل ويتجلى بالخوف والرعب والترقب. وهذا الخوف والرعب يغير البشر في الدول والمجتمعات أكثر وأعمق من التغير الذي يحدثه الأمن والراحة والطمأنينة، ويتكيف البشر مع الخوف والرعب أسرع وأعمق من تكيفهم مع الراحة والأمن؛ لأن هناك خيارات أكثر إلحاحاً أكثر من غيرها.
- – نشر هذا المقال أولا في مجلة ذوات- مؤسسة مؤمنون بلا حدود ، 17 مايو 2016، عل الرابط :
http://www.thewhatnews.net/author_posts.php?author_alias=%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF_%D8%B4%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%AA_