لا نغالي إذا قلنا إن الجزء الأكبر من مشكلة دراسة الارهاب يتمحور حول إشكالية تحديد مؤشرات الإرهاب “الكمية”، وتأتي طبيعة هذه الإشكالية من جوهر مفهوم الإرهاب نفسه، واختلاف وجهات النظر حوله، وسيطرة وجهة النظر الغربية والأمريكية تحديداً في حقل الدراسات والأبحاث في هذا المجال.
لقد لعبت العولمة بأبعادها المختلفة دوراً حاسماً في تغيير الكثير من (المسلّمات)، وبخاصة في المجال السياسيّ، والجانب الأمنيّ بالذات، وتجلى ذلك في عملية التداخل بين الخاصّ والعامّ، وبين الداخل والخارج، وبين المحليّ والعالميّ، إنّ أيّ إغفال لعملية التداخل هذه يعني “خللاً في التحليل”، ولعلّ أهم مثال على ذلك هجمات الحادي عشر من أيلول التي أظهرت بوضوح أن الأمن الداخليّ لأمريكا يرتبط بسياستها الخارجية”([1]).
ولأن هجمات الحادي عشر من أيلول أدينت على نطاق واسع، ولم يعد من السهل التسامح السلبيّ مع الإرهاب، أو حتى التغاضي عنه من قبل الجهات الرسمية في العالم([2])، فقد استغلت أمريكا هذا الوضع، وطبعت دراسة الإرهاب بشكل عامّ، والمؤشرات بشكل خاصّ، بمنهجيتها الخاصة التي يمكن القول ـ وبكثير من الثقة ـ بأنها المنهجية الأبستمولوجية السائدة حالياً، ألا وهي “الوضعية” بتجلياتها المختلفة، سواء الواقعية الجديدة، أو الليبرالية الجديدة، وبخاصة أن سياسة المحافظين الجدد لا تخرج عن هذه المنهجية”([3]).
والإرهاب ـ كما أسلفناـ فعلٌ ذو خلفية وأبعاد سياسية، وهو ليس إلا شكلاً من أشكال العنف واستخدام القوة، ويخضع تعريفه ومعالجته ومكافحته، وتميزه عن غيره من أشكال العنف الأخرى إلى اعتبارات سياسية محكومة بالبيئة السياسية الدولية والظروف التاريخية والموضوعية السائدة، وهو في ذلك كله مرتبط بقيمة الأمن التي تعدّ إحدى القيم الأساسية في العلاقات الإنسانية، وموضوعاً جوهرياً في النظرية السياسية، على الرغم من تعرضه للإغفال من جانب منظّري العلاقات الدولية في المدرستين “الوضعية” التي أغرقته في بحر من المسائل الغائية، مثل: استراتيجة الردع، والسياسة الدفاعية، ودبلوماسية الإكراه والقسر، ومدرسة “ما بعد الوضعية” التي تخلط ما بين الأخلاق والإيديولوجيا([4]).
وللدلالة على المنهجية “الوضعية” السائدة يكفي أن نعطي مثالاً بسيطاً من الأدبيات التي درست وحللت ظاهرة الإرهاب، وبخاصة بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، ولنرى أنه ومن أصل (31) باحثاً ومنظّراً من منظّري العلاقات الدولية الآن، وعلى رأسهم كيوهان، وباري بوزان، وستيف سميث، وكينت والتز، وفريد هاليدي، وفوكومايا…الذين ساهموا في الدراسة التي حررها (كين بوث وتيم ديون) سنة 2002، تحت عنوان (World In Collision: Terror And The Future Of Global Order) عوالم متصادمة: الإرهاب ومستقبل النظام العالميّ) كان هناكأربعةمنظرين بشكلٍ مؤكد يمثلون منهجيات معارضة ومختلفة وهم: فالرشتاين، نظرية العالم الجديد، أندرو لنكلاتر، النظرية النقدية، كريس بروان، النظرية المعيارية، وريتشارد فولك، النظام العالميّ والحكومات العالمية.
وإزاء هذا الواقع كيف لا نواجه إشكالية في تحديد المؤشرات الخاصة بالإرهاب؟([5])، أو قل:كيف سندرس الظاهرة نفسها في العمق، إذا كان بعض المنظرين يرى بأنه (لسنوات قادمة)، وربما لعقود ستبقى الحرب ضد الإرهاب النموذج المحدد في السعي إلى إرساء نظام عالميّ؟”([6]).
كذلك فإن تداخل موضوع الإرهاب باعتباره نوعاً من الصراعات مع الشكل التقليديّ للصراع، المتمثل بالحرب، التي كان “مؤشر القتلى والجرحى”- وما يزال- أهم مميزاتها، وقد تجسد هذا التداخل العميق في “استراتيجية الحرب العالمية على الإرهاب”، ثم ألقى بظلال ثقيلة ـ على سبيل المثال لا الحصرـ على الوضع في العراق، من خلال تشديد الإدارة الأمريكية المحافظة على أن العراق يشكل الساحة الأهم للحرب على الإرهاب في الخارج، لحماية أمن أمريكا الداخليّ والخارجيّ، وجرّاء ذلك يقدر بعض الباحثين أن كلّ العائلات العراقية تقريباً بشكل أو بآخر تأثرت من نتائج هذه الحرب، إذ مات حوالي (2,6%) من عدد السكان منذ سقوط العراق سنة 2003، في حين أن عدد من ماتوا في الحرب الأهلية الأمريكية (1,4%) فقط فهل يعني ذلك أن العراق أولاً، وأمريكا ثانياً يتعرضان للإرهاب بناء على “مؤشر القتلى والجرحى”([7]).
وتطرح “استراتيجية الحرب العالمية على الإرهاب”، قضايا كانت من مسلّمات العلاقات الدولية، كقضية حقوق الإنسان التي احتفي بها بعد الحرب العالمية الثانية، فقد أحدثت قوانين مكافحة الإرهاب، وتأثيرها على الحريات العامة والخاصة- كما في حالة التنصت على الاتصالات الهاتفية دون الحصول على تصريح، وقضايا تعذيب المعتقلين في غوانتامو وأبو غريب وقضايا الهجرة- خلافات حتى داخل الحكومات الغربية وأمريكا؟([8]).
وعلى مستوى الأمن العالميّ فقد فرض الإرهاب العالميّ بالذات تغييراً هائلاً وعميقاً في مسلّمات وأساسيات العمل الاستخباريّ ثاني مهنة في التاريخ، إذ فرضت تداعيات هجمات الحادي عشر من أيلول سنة 2001 عولمة في استخدام أساليب التحقيق والاستجواب وتقنياتهما، وهما الحقلان المهمان للتعامل مع الإرهابيين المشتبه بهم، وبخاصة في معتقل غوانتانامو، من حيث استخدام أساليب جديدة لانتزاع الاعترافات خلال الاستجواب ترتبط أساساً بعصر العولمة، مثلاستخدام موسيقى الروك الصاخبة، أغاني وموسيقى الراب، والهب هوب، والكلاب باعتبارها نجاسة ينفر منها الإرهابيون المسلمون، كما تمّ اختراع واستخدام أساليب جديدة وصفت بالقسوة، مثل تخفيض درجة الحرارة في الزنازين إلى درجة (23) تحت الصفر، وهذا لم يكن ممكناً من قبل لولا العولمة التكنولوجية، وقد كانت فضيحة سجن أبي غريب في العراق الحادثة العولمية التي كشفت جزءاً من هذه الأساليب على اعتبار أن الأساليب نفسها استخدمت في غوانتانامو، ألا يمكن اعتبار استخدام أساليب وتقنيات التحقيق والاستجواب هذه مؤشرات على الإرهاب([9]).
ونقصد بمؤشرات الإرهاب تلك المؤشرات الخاصة بالقياس الكمّيّ للظاهرة، ويستخدمها الباحثون والمهتمون والخبراء، إن على مستوى الأفراد أو مراكز الدراسات والأبحاث الحكومية أو الخاصة، أو مراكز الأبحاث الجامعية أو الدراسات الأكاديمية المتخصصة التي نشطت بشكل منقطع النظير بعد هجمات 11 أيلول 2001 ضد الولايات المتحدة على الرغم من إجماع الباحثين على أن دراسة ظاهرة الإرهاب ليست بالجديدة أو الحديثة، لكنه ولأسباب كثيرة (سنتحدث عنها في ثنايا هذه الدراسة)، “أصبح الخطر الذي يشكله الإرهاب أكثر من ذي قبل”[10]).
ويلاحظ بأنه على الرغم من أهمية ظاهرة الإرهاب والاتجاهات المعاصرة لهذه الظاهرة إلا أنه لا تتوافر لدى الباحثين والدارسين مؤشرات (Indexes) يعتدّ بها من حيث الشمول والمصداقية، على عكس ظاهرة العولمة واتجاهاتها المعاصرة التي أقامت لها مؤسسة كارني بالاشتراك مع مجلة السياسة الخارجية (F.P.) منهجية متكاملة منذ سنة 2000 لقياس مؤشرات العولمة.
ويمكن القول إن مشكلة عدم توافر المؤشرات المرضية والكافية للبحث ـ ذلك أن هناك بعض المؤشرات التي سنتحدث عنها لاحقاًـ تلازم مسألة الصعوبات التي ترافق البحث في الظاهرة وتعقدها، وتجعل من العسير القيام بأبحاث علمية عميقة للظاهرة([11]).
ويرى بعض الباحثين أن هناك عدداً من الإشكاليات([12]) تعيق البحث العلميّ للظاهرة، وتعقّد من مسألة بناء المؤشرات، وأهمّ هذه الإشكاليات أن معظم المعلومات عن الإرهاب تأتي من الصحافة والمصادر الصحفية المفتوحة، وفي حالات محدودة من مصادر رسمية، لذلك فإن مسألة إجراء “دراسات كمية Empirical للظاهرة أو بحث مسائل ـ مثل: دوافع الإرهاب، الخصائص النفسية للإرهابين واتجاهات الظاهرة الجغرافية ـ غير موجودة، فضلاً عن بناء مؤشرات لها، وبشكل عامّ فإن المتوافر من معلومات وبيانات لدراسة الظاهرة أو بعض الأحداث الإرهابية لا يعدو أن يكون تقارير صحفية وسجلات الشرطة أو الأمن، أما المعلومات والبيانات الصحيحة والموثقة والدراسات حولها فإنها تحفظ في خزائن الأجهزة الأمنية والمخابرات بشكل سريّ، ولا تصل إلى أيدي الباحثين المهتمين بذريعة حماية الأمن القوميّ([13]).
هذا بالإضافة إلى مشكلة تداخل حقل الإرهاب مع حقول أخرى من الدراسات، مثل علم النفس، والاجتماع، والاقتصاد، والعلوم السياسية، وعليه، فليس هناك نظريات خاصة بدراسة الإرهاب كظاهرة حسب ما يؤكد ذلك (إليكس شميد، 1983) ([14])، ويؤكد آخرون بأن معظم الدراسات حول الإرهاب تعاني من الضعف والضحالة المنهجية، وليس هناك أيّ نموذج نظريّ متماسك لدراسة الظاهرةوبناء المؤشرات([15]).
وما يزيد من الصعوبة والإشكالية في بناء المؤشرات استمرار النظرة السطحية للظاهرة بشكل عامّ، أو حتى التقليل من شأنها، واستمرار “المناظرات” حول التقليل من دور الإرهاب وتأثيره على “بنية الدول وسلوكها “، والمحاججة باستمرار حول سيطرة الدولة، والبقاء في فضاء “منهجية الواقعية” الأمر الذي يوحي في النهاية بالفصل بين الظاهرتين: العولمة والإرهاب، والتقليل من تأثيرهما المتبادل([16]).
وقد عبر بعض الباحثين منذ تسعينات هذا القرن عن حالة الاستخفاف هذه عندما أشار صراحة إلى أنه يصعب أن تجد دراسة جدية تبحث في أثر الإرهاب على الأفراد، وبدلاً من ذلك فإن الأعمال الإرهابية ومؤشراتها تمّ التعامل معها كأنها من “الكوارث الطبيعية Natural Disaster”، فعلى سبيل المثال تعاملت الإدارات الأمريكية مع أحداث إرهابية، مثل: تفجير مركز التجارة العالميّ، وتفجيرات مدينة أوكلاهوما، ثم أحداث الحادي عشر من أيلول، بالعقلية نفسها؛ أي كأنها هزة أرضية، أو فيضان([17])، أو إعصار، ويركّز آخرون([18]) على مشاكل ومعيقات أخرى تحول دون إجراء الدراسات العلمية للإرهاب وبناء المؤشرات، مثل الفصل بين إرهاب الدولة وإرهاب المجموعات والأفراد ضد الدول، ومعظم الدول تعطي نفسها حق الردّ على العمليات الإرهابية باسم “الحق في الدفاع عن النفس”، وحماية المصالح الوطنية، وتحرم غيرها من هذا الحق([19])، لذلك يرتبط بهذه النقطة بالذات أن الكثير من دراسات الظاهرة تركز على الإرهاب الدوليّ([20])، لذلك كله فإنه وكما كان مفهوم الإرهاب مثار خلافٍ وتباين كبير فإن مؤشرات الإرهاب” تحمل هذا التباين نفسه.
[1].سميث، ستيف، تحريربوث، وديون، تيم، مرجع سابق، ص87 .
[2]. المرجع نفسه، ص 187 .
[3].سميث وستيف، مرجع سابق، صص 350-357 .
[4].جاكسون، روبرت، مرجع سابق، ص 339.
[5].بوث، كين، وتيم، ديون، مرجع سابق، ص ص 439-458.
[6]. بوث، كين، وتيم، ديون، مرجع سابق،ص7 .
[7].مورفي، دان، “خسائرالعراق البشرية”،صحيفة
الرأي الأردنية، 2006، ص 55.
[8].دوركين، رونالد،”لاتضحوابالمبدأ لحساب النزعات الاستبدادية الجديدة”، صحيفةالغدالأردنية، 16/10/2006، ص28 .
219.محطة الجزيرة الإخبارية، وثائقي، 2006.
[11]. Al-Khattar, op. Cit., P.36.
[12]. Ibid.
[13]. Ibid.
[14]. Ibid
226.والتز، كينث،”استمراريةالسياسيةالدولية”في بوث، كين وديون، تيم، عوالم متصادمة، مرجع سابق،صص 451-458، ويجادل (والتز) فيدراستههذهالتيجاءتتعليقاًعلىأحداث11أيلول2001مبأنتلكالأحداثدفعتأمريكاإلى “تغييرسياستهاوسلوكهاعلىالمدىالقصيرفقط، وأنالإرهاب لايغيرالحقيقةالأساسيةالأولى في السياسةالدولية، وهيا لخل لالكبيرفي توازن القوى في العالم..”.
229.بايرز، مايكل، ” الإرهاب ومستقبل القانون الدولي”، في كتاب” عوالم متصادمة” تحرير بوث، كين وديون، تيم ، مرجع سابق، ص، ص161.
- 230. Cordes, Bonnie, “A Conceptual Frame Work For Analyzing Terrorism Groups”, 1985,PP.1-10, Http://Library,Mipt.Org/Uhtbing/Vol/5? Search Dated=A+ Conceptual+ Frame Work+ For+ Analysis In, 21/07/2007.