بشار جرار – واشنطن
خاص لمركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والارهاب
“أعدقاء” ترامب: الصحافة، المؤسسة والأكاديميا
نبرة غير مسبوقة من الامتعاض عبر عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل أيام من محظيته الإعلامية في أميركا محطة فوكس نيوز التي لطالما اعتبرت الوحيدة الداعمة له لدرجة اتهامها بالانحياز ومخالفة قواعد المهنية الصحافية.
ومنذ بدايات رئاسته “الأولى” على الأرجح، وصف الصحافة التي لا يخفي الجميع طلب ودّها بشتى الوسائل، وصفها بالمزيفة لا بل ووصمها ب “عدوة الأمة” سيما إثر الحملة التي شنت عليه من قبل التيار الرئيسي الجارف في الصحافة الوطنية والعالمية متهمة إياه بأقذع الانتقادات التي لم تخل حتى من السباب في البرامج الحوارية: ترامب – كما يزعمون – غبي، أرعن، عنصري ونرجسي إلى حد الهوس الذي دفع بالتشكيك بقواه العقلية لا بصلاحيته النفسية لمواصلة أدائه مهامه الرئاسية فحسب!
وخلافا لتراتبية عنوان المقالة، انتقل إلى الأكاديميا، والسجل حافل بمدى سخريته ممن يقدمهم الإعلام كخبراء. التشكيك يتحول إلى عداء سافر عندما يكون الخبير أكاديميا لا ميدانيا. ترامب يملك ربما عقدة نفسية من أولئك المنظرين ويسخر من السفسطة التي عادة ما تحاط بهالة ما يرافق متحدثي أو كتّاب الأكاديميا من سيرة ذاتية “بيوغرافي” تكفي لو ثبتت فاعليتها لحكم العالم كله لا أميركا فحسب ولأنهت معاناة البشرية جمعاء باستثناء الموت إن سلم من خيالهم العلمي وتنظيرهم الأكاديمي!
الصورة الصارخة التي تحولت إلى سجال علمي أيضا، كانت مزاعم ترامب بفاعلية عّقار “هيدروكسي كلورو كوين” -المستخدم زهاء نصف قرن لعلاج الملاريا – في مواجهة كوفيد١٩ (الكونغ فلو) وقاية وعلاجا. من ضمن ردوده الساخرة كانت، الاعتماد على الإحساس الذاتي واتخاذ القرار وفقا لخبرات متراكمة لا بالطب أو الصيدلة وإنما بالحكم على الأمور والقدرة على ابتكار القرار لا اتخاذه بمعنى الأخذ بما هو موجود أصلا من لائحة توصيات يضعها الخبراء بين يديه. نعلم أن عشرات الأطباء قد قاموا باستخدام هذه العقار المثير للجدل مع مئات المرضى وحققوا نتائج مرضية بعضها كان باهرا.
ولعل في ذلك المدخل المناسب للانتقال إلى ثالث “فرينامي” لترامب من بين “الأعدقاء” ألا وهي “المؤسسة”. ترامب لا يفكر فقط “خارج الصندوق” وإنما شأنه شأن كل الآتين من خارج “المؤسسة” يعلم مسبقا أنه لن يكون موضع ترحيب هذا إن لم يكن موضع “ترويض” أو حتى استقواء ينتهي بالإقصاء الجزئي أو الكلي.
استطاع ترامب قبل أربع سنوات بعد خروجه منتصرا من جبّ الأسود وسحقه ستة عشر منافسا له على ترشيح الحزب الجمهوري، بينهم صقور عدد من المؤسسات كالحزب الجمهوري والواشطونيين والمؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية (الاستخبارية) ومؤسسة الشركات الكبرى العابرة للقارات، وغيرها، استطاع تطمين كل منها على إمكانية “العمل معا” رغم شعاره الأكثر خطورة في أميركا وبرأيي العالم كله عندما تعهد ب”تجفيف المستنقع”. ففي كل عاصمة “مستنقعها” لا عيبا فيها ولا في نظامها، بقدر ما هي طبيعة الإنسان “الهجين” بين الخير والشر. “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة” ليست بالنسبة لترامب محصورة بالسلطة السياسية والفساد السياسي، وإنما بتجريد الشعب من الوعد الأميركي الدستوري الأكبر وهو حكم الشعب بالشعب لنفسه ومن أجله.. لهذا اعتبر ترامب من أخطر الشعبويين وأكثرهم تأثيرا في عين مريديه ومن ألمعهم الغائب الحاضر ستيف بانون المفكر- الناشط – المؤثر الأميركي الذي تولى منصبا استشاريا في بداية رئاسة ترامب الأولى واتفقا بالتراضي على الابتعاد والعودة إلى الميدان الإعلامي في شبكته الإخبارية “بريتبارت”.
لطمأنة المؤسسة الجمهورية، بادر ترامب إلى التوقيع على تعهد بعدم الترشح مستقلا في حال عدم تبني مؤتمر الحزب له. ولطمأنة المؤسسة العسكرية، اختار أسماء كبيرة من الجنرالات كجون كيلي ككبير لموظفي البيت الأبيض، ووزير الدفاع السابق الجنرال الأعزب جيم ماتيس “الكلب المجنون” وقد استخدم اللقب تحببا ومدحا للحزم العسكري الذي اشتهر به ماتيس في قضائه على الإرهابيين. ما هي إلا بضعة شهور، ولم يتحرج من الانقلاب على كل منهما وإن كان أكثر حدة مع ماتيس ومن ثم جون بولتون مستشاره السابق للأمن القومي لخروجهما عن التقاليد المعمول بها عند الإقالة أو (الاستقالة كما زعما).
في الحالين، اتهم ترامب بأنه لا يقرأ ولا يستمع للخلاصات، الانسحاب من سوريا رآه ماتيس مثلا خيانة للكرد الحليف الأكثر موثوقية في ذلك الجزء من العالم في محاربة داعش. لكن ترامب استطاع مثلا تحويل خصمه السابق إبان السباق الانتخابي السناتور المخضرم لندسي غراهام (الهاء صامته) – رئيس اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ – تحويله إلى مؤيد لقرار الانسحاب عندم فهم مراد ترامب وهو البر بوعد انتخابي رئيسي: نحن لسنا شرطة العالم ومهام الجيش حماية الوطن ومصالحه وليس حماية الآخرين في نزاعات تاريخية قد تستمر إلى ما لا نهاية! صدم العالم عندما وصف سوريا بأن ليس فيها سوى “دم وتراب”، لكنه كاشف غراهام بأن الدعم سيتواصل للكرد عبر أدوات أخرى اتضح أنها كانت قد تكون عبر شركات حماية من القطاع الخاص لحماية النفط أيضا الذي كانت الأولوية فيه ولا زالت هي منع الإرهابيين و”النظام” من الاستفادة منه.
وكلما خرجت أصوات عبر الإعلام تنال من قدرات أو حتى دوافع ترامب في اتخاذ القرارات الجدلية إلى حد الحرج كموقفه إزاء قضية خطف وتعذيب وتقطيع وتذويب وحرق ما تبقى من جثة جمال خاشقجي “الصحافي” السعودي المعارض، كان ترامب يذكر بحقيقتين: سجل واسع من أخطاء توصيات المخابرات التي أخذ بها البيت الأبيض كتلك التي أدت إلى حرب إسقاط نظام الراحل صدام حسين في العراق عندما أعلن الجنرال كولين بأول بصفته وزيرا للخارجية أمام مجلس الأمن الدولي “ثبوت” وب “الأدلة الدامغة القطعية” امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل وعلاقته مع تنظيمات إرهابية وسعيه إلى القيام بأعمال إرهابية تستهدف أميركا وحلفاءها.
يفاخر ترامب بأنه كان ضد حرب العراق ولم يخف اشمئزازه من أخذ سلفه باراك حسين أوباما بتوصيات “استخبارية” بإمكانية توظيف “الإسلام السياسي المعتدل” لقلب نظم حكم من بينها حلفاء أوفياء كتونس ومصر والإتيان ب “الإخوانج” (تنظيم “جماعة” الإخوان المسلمين) تحت مسميات عدة إلى الحكم توهّما بأن ذلك سيخدم المصالح الأميركية!
ترامب تعامل مع هؤلاء “الأعدقاء” على نحو خاص بقدر كبير من الحذر والدهاء. لم يكن عبثا اختيار ترامب لمايك بامبيو وزير الخارجية الحالي لرئاسة وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) قبل توليه حقيبة الخارجية خلفا لريكس تليرسون رجل “المؤسسة” النفطية المخضرم. وليس عبثا اختيار خليفة بومبيو في الوكالة التي تعرف أيضا ب”الشركة”، فسيدة “لانغلي” (مقر الوكالة قرب العاصمة واشنطن) ليست سابقة لكونها سيدة فحسب، وإنما لكون جينا هاسبيل ابنة الميدان التي بنت سمعتها في عالم الاستخبارات ميدانيا (بعيدا عن الأضواء) وليس في المكاتب (فكانت بعيدة عن السياسيين والأكاديميين معا).
ختاما، لا مشكلة لدى ترامب في التعامل مع تلك المؤسسات ما لم تسلبه حقه الدستوري والمنطقي باتخاذ القرار. فالنظام نظام رئاسي.. ترامب لا يجافي المنطق ولا الحق عندما يقوم كأي مدير تنفيذي (سي إي أو) و-هذا ليس عيبا- باتخاذ القرار الأصوب، شريطة أن يكون مرنا متضعا أمام حق آخر وواجب أهم، وهو حق وواجب التراجع ولو كانت الاستدارة بدرجة مائة وثمانين درجة.. فالمعلومات في عالم اليوم متاحة وبقدر كبير للجميع باستثناء ذلك الذي يتم استخلاصه وأحيانا “تقطيره” عبر عقول فذه ذات خيال لا حدّ له سيما في أوساط الأكاديما و”الإنتليجنس” وكل من احترف التعامل مع المعلومات في أحوالها كافة (الخام والحال والمآل)، ولكل حرفته وأهله وأوانه..