إلى أين يمضي بنا التطرف الديني العنيف في العالم المعاصر؟
إن الحاجة البشرية العميقة للانتماء إلى جماعة لم تختف بعد، فهي تظل باقية، ولكن من دون منفذ يعول عليه، وتبدو المشاريع الوطنية جوفاء. ولعل هذه الرغبة غير المشبعة للانتماء إلى مجتمع تكون محسوسة بشدة بشكل خاص من قِبَل الشباب، بما في ذلك الجهاديون الشباب.
وقد كان الساسة القوميون والزعماء الدينيون أول من رصد ذلك الفراغ، وهم يسارعون الآن إلى شغله. والواقع أن القواسم المشتركة قليلة بين البابا فرانسيسكو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي، وزعيمة حزب الجبهة الوطنية بفرنسا مارين لوبان، ولكنهم يشتركون جميعاً في رؤية واحدة هي الحنين العميق إلى خلق مجتمعات تحدد معالمها قيم مشتركة وليست احتياجات وظيفية.
جان ماري جوهينو/ وكيل الأمين العام للأمم المتحدة السابق لعلميات حفظ السلام، والرئيس والمدير التنفيذي لمجموعة الأزمات الدولية، 2015
مقدمة
التطرف الديني العنيف أخطر وأسوأ أنواع التطرفات البشرية، لأنه الوحيد القادر على صياغة منظومة كاملة ومتينة من التصورات لسيرورة الحياة الدنيا وتفسير علاقة البشر بالكون وصيرورة الحياة الآخرة.
وتشير الدراسات الكمية إلى أن هناك ارتباطا وعلاقة إيجابية بين التدين والدين والعنف بشكل ٍ عام، لأن المتديّن يرى نفسه متفوق على غيره من البشر المعارضين له في الدين، لا بل في فهم الدين وتفسيره في الدين الواحد.
ويُلازم التطرف الديني جميع الديانات بلا استثناء سواءً التي يطلق عليها سماوية أو الإبراهيمية (اليهودية، المسيحية، الإسلام) أو غيرها من الديانات والمعتقدات الموجودة في عالم اليوم، والتي يبلغ عددها حسب إحصائيات موقع (Adherents.com) المتخصص بالأديان (4200) ديانة أو جماعة منها الديانات الخمس الكبار، وهي: المسيحية واليهودية والإسلام والهندوسية والبوذية وهناك (34000) مجموعة دينية مسيحية.
لذلك؛ فليس غريباً أن يقول (لورنس شيسلرLawrence Wechsler) إن تاريخ الديانات السماوية أو الإبراهيمية هو في الواقع تاريخ إبادة جماعية.
ويؤكد باحثون ونقاد محدثون في الأديان مثل:
Richard Dawkins Sam Harris, Christopher Hitchens, Daniel Dennett, Hector Avalos, Regina Schawaz على دور الدين في زيادة العنف وبالتالي التطرف.
والمثير أن التطرف يبدأ أصلاً من هنا؛ من لحظة اعتبار أن هناك ديانات سماوية متفوقة وأخرى بشرية.
وهناك ارتباط وعلاقة عكسية – سلبية بين التدين والثروة وبشكل عام، كلما زاد غنى الدولة كلما قل تدينها، بينما هناك علاقة إيجابية بين التدين والصحة بشكل عام والصحة النفسية بشكل خاص، فكلما كان الشخص متدينا كلما كان أكثر صحة.
ويؤكد المُنظر المتخصص في الأديان المقارنة وعلم النفس السريري (جيمس جونس: James W.Jones) أن الشعور بالعار والخجل والسوداوية وشيطنة الآخر كلها تدفع بالبشر إلى التطرف والإرهاب، وأن مثل هذه الأفكار منتشرة لدى الجماعات الأصولية الجهادية الإسلامية.
هذا المدخل المختصر لفهم التطرف الديني محاولة لعرض القشرة الخارجية فقط لهذا الحقل المعقد من الدراسة الذي شرحه الباحثون والمنظرون والأكاديميون في الغرب، بينما لايزال عالمنا العربي والإسلامي المتهم الأول بالتطرف يقف متفرجا على مبضع الطبيب، وهو يشرحه؟
انبعاث التطرف الديني العنيف
إننا عندما نركز على الأعمال الفردية التي تقوم بها مجموعات، مثل “داعش”، مهما كانت وحشية وهدامة، فإنها تكون مرعبة ومثيرة للذعر بلا شك؛ لكن معاملة المجموعة على أساس أنها تعاني من مرض نفسي وتتصرف بلا تعقل وتكرس نفسها للتدمير والتحطيم وحسب، تعني تفويت المنطق الذي يكمن خلف ممارساتها وأفعالها.
هناك سرد واضح للنزعة الحرفية العنيفة في فهم هذه المجموعات للكتاب المقدس، والذي يصبغ كل أفعال منتسبيها: الزعم بأن أعمالهم ليست عشوائية أو غير عقلانية، وإنما هي مصممة لتحقيق شيء. وإلى أن نفهم كنه هذا الشيء، فإننا قد نتمكن من هزيمة “داعش”، لكننا لن نهزم التيار التحتي الخفي الذي تنبع منه.
بيتر ويلبي(Beter Welby) المحرر المسؤول في مؤسسة (توني بلير) للأديان، صحيفة النيوزويك، 18-3-2015([1]).
هناك كثير من الشواهد – غير الإمبيريقية – التاريخية والوصفية لدى الباحثين والأكاديميين والخبراء والمنظرين من مختلف المشارب ومنذ بدايات القرن العشرين على عملية الربط بين “سيرورة العولمة”، حيث يحشر كل شيء ويتحطم في إطار (مكاني- زماني) ضيق جدا([2]) وبروز ظاهرة التطرف الديني في العالم.
ثم المجازفة بالقول إن سيرورة العولمة أثرت إيجابيا على ظاهرة التطرف، ورفعت من وتيرتها وزادت من خطورتها، ومن صعوبة ضبطها ومحاربتها في جميع أنحاء العالم.
ففي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تنبأ عدد من كبار الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين في أوروبا إلى أن الدين سوف يختفي من حياة البشر، وأعلن الفيلسوف الألماني (نيتشه) عن “موت الإله”([3]).
ثم أعيد التأكيد مرة أخرى عن هذا الافتراض في النصف الأول من القرن العشرين، حينما افترضت الصفوة المثقفة في أوروبا وأمريكا بأنه وتحت وطأة تسارع عمليات التحديث الاقتصادي والاجتماعي، فإن الدين سيتلاشى بكونه عنصراً مهماً في الوجود الإنساني، غير أن ما حصل بالفعل هو العكس تماما.
إن تطورات وتحولات “النصف الثاني من القرن العشرين أثبت أنّ هذه الآمال والمخاوف ليس لها أساس. لماذا؟ لأن التحديث الاقتصادي والاجتماعي أصبح عاليا وعالميا في نطاقه، وفي نفس الوقت، حدث إحياء ديني عالمي شامل في عصرنا الحاضر، في عالم يقدر بعض علماء الأنثروبولوجيا” أنه يعج بحوالي مئة ألف ديانة وعقيدة وعبادة “وشهدت الديانات الرئيسة الكبرى: الإسلامية، والمسيحية، واليهودية، والهندوسية، والبوذية، حركات إحياء في الإيمان، والممارسة. لكن المهم في الأمر أنه في جميع هذه الديانات (انبثقت الحركات الأصولية التي آلت على نفسها التطهير المسلح للمعتقدات والمؤسسات الدينية، وإعادة تشكيل السلوك الشخصي والاجتماعي، بما يتوافق معها)”([4]).
أما كيف فسّر هذا الانبعاث الديني، ثم انبثاق الحركات الدينية الأصولية والمتطرفة؟ فإن (هنتنغتون) يرى “أن أكثر العوامل وضوحا، وأكثرها بروزا، وأكثرها قوة في هذا الانبعاث هو بالتحديد ما كان يفترض أن يسبسب انتهاء الدين؛ أي عمليات التحديث الاجتماعي والاقتصادي والثقافي التي عمّت العالم في النصف الثاني من القرن العشرين”([5]).
بمعنى آخر، فإن دور العولمة كان حاسما في انبثاق وانتشار وزيادة مدى إدراك المجتمعات العالمية لظاهرة التطرف الديني والقومي على مستوى عولمي، لم يكن مدركاً من قبل، وذلك بفضل آليات العولمة التكنولوجية من محطات فضائية، وهواتف خلوية وإنترنت، وغيرها من وسائل الاتصال والمواصلات.
وأحدث مثال على ذلك التغطية الإعلامية والاهتمام المعولم الذي حظيت به العملية الإرهابية التي نفذها الإرهابي الاسترالي المتطرف برنتون ترانت ضد المصلين في مساجد مدينة كريست تشيرتش – نيوزيلندا في صلاة الجمعة 15/أذار /مارس/2019م، وذهب ضحيتها 50 شخصاً وجرح 50 آخرين([6]).
مع ضرورة التأكيد على أن العولمة، وإن كانت ساهمت في انبثاق وانتشار الإحياء الديني، ثم التطرف الديني، إلا أنها لم “تعولم الأديان”؟
ولذلك، نرى عالم (الأنثروبولوجيا المصري) أحمد أبو زيد يؤكد (أنَ عولمة الدين هي مجرد دعوة مثالية يصعب تحقيقها على أرض الواقع)([7]).
إن التطرف الديني، لا يختص بدين معين أو جماعة عرقية معينة، ثم إن أتباع الديانات المختلفة هم وحدهم الذين يصوغون “نظرة الآخرين” لهم اعتمادا على تفسيرهم الخاص للدين، وأن آليات العولمة الاجتماعية والتكنولوجية – تحديدا – ساعدت على إدراك وعولمة هذا النوع من التطرف، مما أدى إلى هذا الانزياح الخطير في المفهوم.
والمعضلة (Dilemma) أنه بدلا من أن يندمج البشر اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا بتأثير من عملية العولمة، اندمجوا وتشابكوا ضمن سياقات التطرف ونبذ الآخر.
إن معضلة اندماج البشر على مستوى العولمة والتفكيك على مستوى الأنا الضيقة والشعور بالإحباط والخيبة، ونبذ الآخر والخوف منه في سياقات “ظاهرة التطرف” – مسألة تسترعي الانتباه وبحاجة إلى دراسة معمقة من الباحثين.
لذلك يمكن القول إن التنظيمات الإرهابية لم تنشأ ولم تنتشـر إلا في أجواء “الخيبة والإحباط” التي سادت عند المسلمين، وهي المغذية للتطرف واستمراره بلا أمل في الخلاص، إلا باللجوء إلى هذه الوسيلة البائسة واليائسة التي خلقت كما يقول المفكر الأردني إبراهيم غرايبة الروح الخائفة في العالم العربي والإسلامي، وهي تخلق الحالة الراهنة من الارتباك والحيرة في العالم الإسلامي، وفي العالم أجمع([8]).
لقد اعتبر الناطق الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن/ جميل أبو بكر (7 نيسان 2010) توزيع “سي دي” يتضمن مشاهد تصوّر الرجال الملتحين ونساء محجبات على أنهم إرهابيون على مدارس الأردن “حدثا خطيرا يستهدف الإسلام نفسه وعزل الأجيال عن معتقداتها ودينها وتشويه صورة الدين في الأجيال الناشئة وقال (لـصحيفة “السبيل” التي تمثل وجهة نظر جماعة الاخوان في الأردن) إننا أمام تحولات خطيرة تستهدف إدماج المجتمع في سياق اتفاقيات معادية تخدم مخططات دولية عالمية، وتمثل حالة من “التطرف الشديد” يستدعي تطرفا آخر، قد يدخل المجتمع في دوامة من العنف يصعب تصوره”([9]).
ويلاحظ هنا مدى الاستفزاز الذي يهدد السلم المدني والخوف عليه، سواء من الحكومة أو الجماعة التي تقول “التطرف الشديد” يستدعي تطرفا آخر؟
وهذا المنطق في مقاربة المسالة ينتشر اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام والبرامج الحوارية، خاصة في الآونة الأخيرة بعد العملية الإرهابية التي نفذها اليميني المتطرف الأسترالي برنتون ترانت ضد المصلين في نيوزيلندا.
إن حالة التطرف الديني لا تقتصر على الفضاء الإسلامي فقط، فالعالم كله يشهد بعثا دينيا متطرفا يؤثر على الحياة العامة والثقافة، ويعيد تشكيل الدول والمجتمعات
لذلك، تنطلق إشكالية مفهوم ظاهرة التطرف من نقطة جوهرية مكثفة تستند بشكل أساسي إلى المعضلة السابقة ذكراً، وبالنظر فكريا وذرائيعياً إلى تلك المقولة التي انتشرت على الأقل منذ أوائل التسعينيات، على ألسنة وأقلام عدد من الكتاب والمنظرين السياسيين – المغرضين أو المنصفين -، التي تشيع أنَ الإسلام – تحديدا – وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، أصبح هو العقبة المعقدة أمام السلام العالمي، و”الخطر الأخضر” الذي بات يهدد العالم الحر، وإن الدين الإسلامي سبب التطرف الديني العنيف، وهو يشجع على الإرهاب.
إنّ التطرف الديني مهما كان مصدره يعتبر قاطرة تسحب الإرهاب، إلا أن ذلك لا يخص ديناً أو جماعة بعينها، أن تاريخ البشرية حافل بالتطرف ذي المصادر الدينية، وأن الإرهاب الناتج عنه لم يترك أمة من الأمم على مدار التاريخ، إلا وضربها في العمق في كل وقت غفلت فيه الأمم عن طموحات وآمال ومشاكل أبنائها وشعوبها.
كما أن الدين الإسلامي أو أي دين آخر، لا يمكن بحكم طبيعته أن يكون عدوانيا أو يصدر عنه العدوان أو الإرهاب أو يهدف إليه، وأن مسألة العداوة للغرب من الإسلام أو العكس، يجب أن تفهم من داخل السياق التاريخي الذي تعيش فيه الشعوب، سواء الإسلامية أو غيرها.
إن حالة التطرف الديني لا تقتصر على الفضاء الإسلامي فقط، فالعالم كله يشهد بعثا دينيا متطرفا يؤثر على الحياة العامة والثقافة، ويعيد تشكيل الدول والمجتمعات. فإلى جانب العالم الإسلامي، حيث تمثل الحركة والاتجاهات الإسلامية القوة الشعبية الفاعلة والغالبة، تقوم في أوروبا صراعات دينية قومية وعرقية مثل: الكروات والصرب، والصرب والبوسنة، والصرب والألبان، والكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا، ومشاكل الأقليات المسلمة في سويسرا، وبلجيكا، وفرنسا، وبريطانيا وهولندا حول الحجاب والنقاب وبناء المساجد او المآذن وحرية التعبير وتصاعد وتيرة الاسلاموفوبيا.
وتحتل الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة مكانه مؤثرة في الحياة السياسية والعامة، وتمتلك شبكة واسعة من الكنائس والجامعات ومحطات التلفزة والشركات والجمعيات التي تخدم وجهات نظرها المتطرفة، وينسب إليها نجاح الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وبرامجه ومواقفه، ثم دونالد ترامب وبرنامجه الذي يُتهم اليوم بأنه يقود قاطرة اليمين المتطرف أو ما يطلق عليه “اليمين البديل” ليس في أمريكا والغرب فقط؛ بل في العالم كله.
وفي شبه القارة الهندية، تغلبت الأصولية الهندوسية المتطرفة على حزب المؤتمر العريق الذي ظل يحكم الهند منذ تأسيسها.
إن المعايير المزدوجة، والشعور بالاغتراب والخوف من الآخر، والتهميش الذي يشعر به الأفراد والشعوب ممزوجاً بالانكفاء للداخل والنوستولوجيا، وتحريف النصوص والموروث الديني، وإغلاق أبواب الحوار، والتخلف الاقتصادي والاجتماعي وفشل برامج التنمية والاغتراب الثقافي، كلها تشكل وقود التطرف الذي يؤدي إلى الإرهاب بوصفه منتجاً نهائياً حتى أصبح خطرا معولماً تشن ضده وباسمه الحروب.
المراجع
[1]– Peter Welby, (2015).Why ISIS Is Destroying Iraq’s Ancient Heritage, Newsweek
2- أبو زيد، أحمد (2010)، العودة إلى الدين، مجلة العربي، العدد 617، نيسان، الكويت، ص 30 – 34
4– هنتنغتون، صموئيل (1999)، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة مالك عبيد أبو شهيوة، ومحمود محمد خلف، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا الطبعة الأولى، ص 190 أبو زيد، أحمد، العودة إلى الدين، 2010، ص 32 و201
5- هنتنغتون، صموئيل، 1999، ص 193
[6]– Steve Hendrix and Michael E. Miller, (2019) ‘Let’s get this party started’: New Zealand shooting suspect narrated his chilling rampage, https://www.washingtonpost.com/local/lets-get-this-party-started-new-zealand-gunman-narrated-his-chilli.
6– أبو زيد، أحمد، العودة إلى الدين، 2010، ص 3
7- محمد جابر، الأنصاري (2010)، مكافحة الإرهاب تبدأ بإنصاف المسلمين، صحيفة الغد الأردنية نيسان، العدد 2047، ص 25
8- نص التصريح كامل على موقع جماعة الإخوان المسلمين الإلكتروني: http://www.ikhwan-jor.com/#1%201