أثارت المحاضرة التي قدمها اللواء مايكل ناغاتا في “معهد واشنطن” بتاريخ 10تموز الحالي حول “تقيم الجهود الأمريكية لمكافحة الإرهاب منذ 11 أيلول 2001م” ونشرت في أكثر من موقع باللغتين بالإنجليزية والعربية بفضل مركز واشنطن وتمت مشاركتها على صفحة مركز شُرُفات على الفيسبوك ، أثارت لدى الكثير من الشجون والأسئلة؛ فأنا كمتخصص في العمل الاستخباري لمدة 29 عاماً وجدت في حديث اللواء ناغاتا الكثير من الحكمة والصراحة والصرامة التي تميزنا نحن معشر العسكريين ورجال المخابرات.
لكن أكثر ما استوقفني في حديث اللواء ناغاتا سؤاله :لماذا لم ينته الإرهاب حتى الآن رغم كل الجهود العالمية ضده. والاعتراف بأن المقاربة
التي تعتمد الوسائل والأساليب العسكرية – الأمنية Kinetic الحركية
ليست كافية لوحدها للقضاء على الإرهاب ، وهي مقاربة سبق أن أكد عليها اللواء ناغاتا في مقابلة له في تموز 2017م مع براين دودول و دون رسللر من مركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية وست-بيونت العسكرية . وأنه لا بد من مقاربات مختلفة منها مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في التوعية من مخاطر التطرف العنيف والإرهاب رغم التكلفة المالية المرتفعة لمثل هكذا مشاريع.
وهذا يدفعني لطرح السؤال التالي :
هل هناك حاجة عالمية للاستثمار في برامج إعادة التأهيل والاندماج للإرهابين أو المتهمين بالإرهاب والتطرف العنيف في السجون ، والرعاية اللاحقة لهم خارج السجون، كمقاربة مكمّلة وليس بديلة للمقاربة الحركية؟
وأنا؛ أعتقد بأن هناك حاجة ماسة لوجود هذه البرامج كمقاربة “غير حركية “مكمّلة لوسائل مكافحة الإرهاب “الحركية” في الدول التي تواجه خطر التطرف الديني العنيف والإرهاب خاصة تلك الدول التي ابتليت بتفشي ظاهرة “المقاتلين الأجانب ” بوجود عدد كبير من مواطنيها في ساحات القتال خاصة في سوريا التي تشهد هذه الأيام إرهاصات القضاء النهائي على التنظيمات الإرهابية سواء داعش أو النصرة.
وبالتالي فإن السيناريو المحتمل هو العودة الاختيارية ، أو الإجبارية للمقاتلين وعائلاتهم إلى بلادهم الأصلية ، وهو السيناريو الأكثر إحتمالاً . وانا اتحدت هنا عن سيناريو تفاهمات دولية(خاصة بين الروس والأمريكان) تجبر الدول على استقبال مواطنيها واستيعابهم بمختلف الطرق.
ماذا يعني هذا؟
يعني أن الدول الأكثر تصديرا للمقاتلين الأجانب مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا وتونس والأردن والسعودية ستكون مجبرة – ربما – بضغط دولي معزز بقرار من الأمم المتحدة في حال تدخلت في الأمر، على استقبال رعاياها، رغم أن سياسات البعض منها المعلنة أو السرية، هي عدم السماح لهم بالعودة؛ لا بل القضاء عليهم في ساحات القتال ، وهذه مقاربة تحدث عنها الفرنسيين حسب تسريبات صحفية كما في فرنسا. على سبيل المثال اعتبرت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي، في برنامج “لو غران روندي-فو” 15اكتوبر 2017م : أنه “من الأفضل” أن يُقتل أكبر عدد من مسلحي تنظيم داعش خلال المعارك في الرقة، معقل التنظيم في سوريا قبل سقوطها .
واعتبر وزير الدولة البريطاني لشؤون التنمية الدولية روري ستيوارت، في تصريحات تناقلتها وسائل الإعلام البريطانية ونشرت على سكاي-نيوز بالعربية 23 أكتوبر 2017م أن ” الرد ، والطريق الوحيد الذي يجب أن تتعامل بها بلاده مع المئات من مسلحي “داعش” البريطانيين الذين تقدر عددهم المخابرات البريطانية بـ(850) مقاتل في مناطق الصراع في الشرق الأوسط، هي قتلهم” بحجة أنهم خطر داهم على أمن بريطانيا .
بينما في الأردن فأن الموقف المعلن – حتى الآن- هو عدم السماح بعودتهم. طبعاً دون أن ننسى أن بعض المقاتلين الأردنيين يرفضون مبدأ العودة أصلاً، علماً بأن هناك تقديرات في وسائل الإعلام تشير إلى أن هناك الآن ما بين 8-10 آلاف مقاتل من تنظيم داعش لوحده في منطقة شرق الفرات.
مشكلة المقاتلين الأجانب
رغم تضارب التقييمات لعدد المقاتلين الأجانب في سوريا والعراق بعد ظهور تنظيم داعش 2014م إلا أن تقييم مجمع المخابرات الأمريكية – مثلاً- يشير إلى أن العدد الإجمالي للمقاتلين الأجانب السُنة بلغ 40 الف مقاتل دخلوا ساحات الصراع قادمين من أكثر من 100 دولة في العالم.
وهذا يدل على مدى عولمة الظاهرة وانتشارها وأنها لم تعد قضية محلية أو دولية تخص دولة لوحدها، بل خطر وتحدي يواجه الأمن العالمي.
و بهذا المجال كشفت دراسة أعدها “المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في لاهاي” نشرتها وكالة رويتر 2016م إن دول الاتحاد الأوروبي يجب ألا تتساهل مع مواطنيها الذين يغادرون للقتال في سوريا والعراق، على ضوء سفر ما يصل إلى 4294 أوروبيا للقتال في سوريا ، عاد منهم إلى أوروبا 30 بالمائة، وتأكد مقتل 14 بالمائة، وأشارت الدراسة إلى إن نحو 17 بالمائة منهم من النساء .
وقد قدر المنسق المكلف بمكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي جيل دي كيرشوف عدد المقاتلين الأوروبيين الموجودين حاليا في الشرق الأوسط(2017) بما يتفاوت ما بين 2000 و2500 مقاتل.
ولا يخفى بأن أوروبا قلقة جداً من عودة المقاتلين الأجانب ، وهذا القلق عبرت عنه في الكثير من المحافل الدولية خاصة خلال اجتماعات قادة حلف الناتو ، والدول السبع الكبرى وفي اكثر من مناسبة .
أعتقد أن مشكلة المقاتلين الأجانب، ومعضلة الأمن التي تواجه الدول والمجتمعات التي تعاني من هذه الظاهرة هي:
أين سيذهب المقاتلون الأجانب الأحياء وعائلاتهم وأطفالهم خاصة اليتامى ، بعد القضاء على الجماعات الإرهابية في سوريا، وإذا عاد بعضهم إلى بلادهم، ماذا سيُفعل بهم، وكيف سيتم التعامل معهم؟
في الأردن مثلاً- رغم عدم وجود أرقام رسمية موثقة – وهو البلد الذي صدر العدد الأكبر من المقاتلين مقارنة بعدد السكان هناك ما بين 3الاف إلى 4 آلاف مقاتل معظمهم التحق بتنظيم داعش. وحتى الآن يمنع الأردن عودة المقاتلين الى الأردن وهناك أوامر لحرس الحدود بإطلاق النار على كل من يحاول اختراق الحدود بين الأردن و سوريا والعراق . وما بين 100 الى 500 مقاتل الذين سمح لهم بالعودة بطرق مختلفة ، تمت محاكمتهم وسجنهم ، وبعضهم خضع لبرنامج إعادة التأهيل في مراكز الإصلاح والتأهيل .
تجارب دولية في إعادة التأهيل والاندماج
هناك إجماع اليوم من قبل الكثير من الباحثين والخبراء في مجال مكافحة التطرف العنيف والإرهاب العالمي على أن المقاربات الأمنية – العسكرية لوحدها لم تعد كافية لمواجهة خطر الإرهاب والقضاء عليه. وحديث اللواء ناغاتا السابق يأتي في النهاية في هذا السياق. وبناءً عليه لا بد من مقاربات متعددة لمكافحة الإرهاب والتطرف العنيف.
أحد المقاربات التي بدأت في الانتشار عقب أحداث 11ايلول 2001 كانت برامج إعادة التأهيل والاندماج للإرهابيين في السجون والرعاية اللاحقة ،أو ما يسمى “تأمين الخروج” والاندماج في الحياة بعيداً عن الأفكار والإيديولوجيات المتطرفة ومخاطر العودة اليها بسبب إنعدام الخيارات و إنسداد الأفق .
مين الخروج ورغم التقييمات المتضاربة لفائدة هذه البرامج في القضاء على التطرف العنيف والإرهاب، وقصص النجاح ليست كثيرة، إلا أن هذا لا يعني عدم تشجيعها ودعمها و الاستمرار فيها رغم كل ما يقال عن تكلفتها المالية المرتفعة ، والادعاءات بأن الاستثمار فيها خاسر لأن النتائج الإيجابية لا تساوي حجم الخسائر والتكاليف المادية والمعنوية .
ويمكن أن الإشارة الى التجربة الأمريكية في السجون العراقية بعد 2003 وهي تجربة غنية بالعبر والدروس جهة كيفية التعامل مع المعتقلين بتهم الإرهاب، ورغم حماس القائمين على هذه البرامج وفوائدها الإيجابية، إلا انها انتهت بعد خروج القوات الأمريكية من العراق.
وأعتقد بأنه من الظلم الحكم عليها بالفشل التام فقط لأن الإرهاب لم ينته في العراق وان السجون العراقية التي كان بعضها يشهد تجارب برامج إعادة التأهيل والاندماج، مثل معتقل” بوكا” الذي كان يحوي عام 2007 حوالي 24 ألف معتقل عراقي أنتج لاحقاً حسب دراسة لمجموعة “صوفان” الأمريكية أهم قادة تنظيم داعش وعلى رأسهم زعيم التنظيم الحالي أبوبكر البغدادي ، وبعضهم قتل مثل أبو مسلم التركماني، وحاج بكر وغيرهم.
ومع أنه ليس هناك معلومات مؤكده عن خضوع البغدادي أو قادة التنظيم في بوكا لبرنامج إعادة التأهيل والاندماج؛ إلا أنه من الإنصاف القول بأن معظم الإرهابين دخلوا السجن وهم متطرفون جداً، وخرجوا منه 2009 م وهم أكثر عنفاً وتطرفاً ورغبة في الانتقام.
إذا تحدثنا عن التجارب الدولية رغم قلتها؛ فيمكن أن نذكر التجربة السعودية في برنامج مركز محمد بن نايف “المناصحة والرعاية ” الذي يعتبر أقدم وأهم برنامج في الشرق الأوسط وهو برنامج يحظى بتقييم إيجابي بشكل عام. والمقاربة المغربية في سياسة الدمج وهيكلة الحقل الديني.
و برنامج” آرهوس” نسبة إلى مدينة آرهوس في الدنمارك، وبرنامج” الحياة “في المانيا.
و برنامج “توديع الكراهية والعنف” هو اسم برنامج اتحادي لمحاربة التطرف” كان موجودا في السنوات بين 2001 وَ 2014، وهدف إلى مساعدة المتسربين من الجهاديين على الانفتاح على المجتمع، إلا أن هذا البرنامج تم وقفه.
ونموذج “مسار” في بريطانيا، وتبنت أمريكا، و فرنسا، وبلجيكا برامج مماثلة. وهناك برامج في سنغافورة وماليزيا، وإندونيسيا التي يبدو أن برنامجها يلاقي صعوبات نتيجة التكلفة المالية المرتفعة للرعاية اللاحقة للمتطرفين والإرهابيين.
المحبط للباحثين والخبراء أن معظم هذه البرامج تحاط بطابع من السرية الشديدة ولا ينشر عنها الكثير في وسائل الاعلام .