ترافق استخدام مصطلح -أو مفهوم – الخوارج كفرقة إسلامية مشهورة جداً في التاريخ والتراث الإسلامي مع بدايات ظهور تنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا بحيث أصبح مصطلح الخوارج الحديث يُحيل مباشرة الآن إلى داعش.
ولأن التاريخ يعيد أو يكرر نفسه، وأحيانا على شكل ملهاة؛ يبدو أن التاريخ يعيد لنا أو يعيد تدوير وإنتاج مفهوم الخوارج أو فرقة الخوارج حسب الموروث والتراث الديني الإسلامي.
فمن ضمن قائمة تحوي أكثر من مئة (100) مصطلح إسلامي تراثي قمت برصدها مؤخراً(قائمة أولية) ودخلت قاموس اللغة الإنجليزية وغيرها في الدراسات والأبحاث والتقارير الإخبارية والصحفية والمدونات على الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي ومواقع البحث العلمي خاصة على جوجل تُحيل إلى إحالاتٍ معاصرة إلى الإرهاب الاسلاموي بشكلٍ عام وداعش خصوصاً؛ وجدت مصطلح الخوارج يتكرر استخدامه بلفظة العربي ليحيل إلى ما يسمى في أدبيات الإرهاب بـ “الإرهاب الإسلامي” ، و إرهاب داعش تحديداً.
أن مسألة التوظيف السياسي للدين وأشكال التدين ظاهرة محايثة لسيرورة التطور السياسي في العالم وليست مرتبطة بدين معين أو جماعة سياسية وأخذت عبر التطور البشري والفاعلين الاجتماعين أشكالا متعددة من الاتهام بالهرطقة إلى الاتهام بالتكفير والزندقة. والهدف من ذلك هو محاولة المحافظة على هوية طهرانية ؛ أو خلق هوية مختلفة وشيطنة الآخر ليسهل عزلة ثم الانقضاض والقضاء عليه.
في التراث الإسلامي؛ ودون البحث في مسألة الفرق والملل والنحل وصراع الفرق نالت فرقة الخوارج الكثير من الاهتمام نظراً لخطورتها على الأنظمة السياسية التي كانت في طريقها إلى التشكل سواء تجاه الخليفة علي بن أبي طالب أو معاوية بن أبي سفيان. ثم خطرها وتهديدها لدولة بني أمية. وأعتقد بأنه من هناك بدأت الانعطافة الكبرى في عملية التنظير السياسي لمسألة التوظيف الديني لمصطلح الخوارج لغايات وأهداف سياسية بهدف نزع أية شرعية أو ذريعة للخوارج للمطالبة بأي إصلاح اجتماعي أو سياسي. ولا أعتقد بأننا نضيف جديداً إذا قلنا بأن المؤسسة الدينية التي تسيطر عليها الدولة الإسلامية تولت مهمة توفير القاعدة الابستمولوجية والإنطولوجية والفتاوى لتحطيم فكر الخوارج وترسيخ مفهوم عميق وواسع بأن المفهوم لا يحيل إلا إلى الخروج أو المفارقة سواء فكريا أو مكانيا أو حتى زمانيا بمعنى طرد الخوارج خارج زمكان الدولة الإسلامية كلياً، وقد تولت المؤسسة السياسية والعسكرية مسؤولية تنفيذ هذه المهمة ومن هنا جاءت شهرة الحجاج بن يوسف والمهلب بن أبي صفرة وفي مقابلها شهرة قادة للخوارج مثل قطري بن الفجاءة على سبيل المثال لا الحصر . ولعله من المثير للضحك هنا أن هناك شارع في العاصمة الأردنية عمّان في منطقة الشميساني الراقية اسمه شارع قطري بن الفجاءة !؟
لقد عاد استخدام مصطلح الخوارج ليحيل إلى تنظيم داعش بعد عام 2014 عقب سيطرة التنظيم على الموصل وإعلان الخلافة . وكان الملك عبدالله الثاني بن الحسين ملك الأردن وبشكلٍ لافت من أكثر الزعماء والقادة العرب والمسلمين باستخدام هذا المصطلح وباللغة الإنجليزية في كافة خطاباته التي تحدث بها خاصة في خارج الأردن عن التنظيم وضرورة مكافحته والقضاء عليه خاصة بعد العملية المشهورة بقيام التنظيم بحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة عام 2015م.
ولقد لاحظت بأن الملك عبدالله لم يستخدم هذا المصطلح إلا بعد أن صرح أهم منظرين في السلفية الجهادية : أبو محمد المقدسي (عصام بن محمد بن طاهر الحافي العتيبي) وهو أستاذ أبو مصعب الزرقاوي ، وأبو قتادة الفلسطيني (عمر محمود عثمان). وكلاهما يحمل الجنسية الأردنية بأن داعش هم خوارج العصر .
ثم تبع ذلك فتوى للمرجعيات الدينية في السعودية والأزهر. وبالطبع كم هائل من الفتاوى الشرعية والدراسات وردود الفعل التي تم نشرها على الأنترنت والمدونات ،و وسائل التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض والكثير منها يؤكد بأن داعش بغض النظر عن توحشه ليس له علاقة بالخوارج ؛ بل هو أحد تجليات الإسلام السني وأن مرجعيته الفكرية التأصيلية لا تخرج عن الكتاب والسنة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما فائدة هذه الرطانة السطحية الواسعة جداً حول إعادة تدوير المصطلحات والمفاهيم في جدل عقيم لم يفض إلى شيء في الماضي؛ ولا أعتقد أنه سيفضي إلى شيء في مستقبل عمليات مكافحة التطرف الديني والإرهاب، خاصة إذا علمنا بأن الإرهابيين لا يضيرهم وصفهم بالإرهاب أو داعش أو كلاب النار، ولا حتى طيور الجنة.
أعتقد أن ما نحتاج إليه هو مقاربة مختلفة لا تقتصر على محاولة بائسة في تدوير المصطلحات التراثية، أو الحلول العسكرية والقانونية فقط ، لأنها فشلت باعتراف الكثير من الأطراف الفاعلة من الدول وعلى رأسها أمريكا زعيمة التحالف الدولي ضد تنظيم داعش؛ بل مقاربة كلانّية تدمج كل الأسباب التي تؤدي إلى التطرف الديني والعنف السياسي بشكلٍ عام، وأن يكون الاهتمام بهذه الأسباب حسب أوزانها النسبية في الأهمية .
وأرى؛ بأن هذه المقاربة –يمكن – أن تستند على عددٍ من المحاور، وهي:
-لمحاربة هذا الفكر والقضاء عليه لا بد من وجود مقاربـة موازية له وليس مواجهة له أو معارضة أو منافسة له،(لكنها تستخدم نفس صندوق العدة ) ؛ مقاربة جادة تقوم على بناء منظـومة واسـعة وعمـيقة ومقـنعة وذات جـدوى من المصالح والعلاقات والبرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعبر عن مصالح الناس وتدفعهم للدفاع عنها وحمايتها بدل تشتيت الجهد في منافسات طابعها اللعبة الصفرية، ثم خسارة كافة أطراف اللعبة.
– أهمية الوعي بأن هناك قطاعاً طفيلياً واسعاً وعريضاً يتكسب من وراء الرطانة الواسعة حول محاربة التطرف الديني أو مكافحة الإرهاب، وفوضى المصطلحات والمفاهيم يشمل: أطرافاً فاعلة من غير الدول، أهمها الخبراء و الأكاديميون والشيوخ والوعّاظ والمحللون والكتاب والمنظمات غير الحكومية ومراكز البحوث والدراسـات والـمرتزقــة وشـركات الحماية والمجمّع الصناعي وبالذات شركات تصنيع الأسلحة والذخائر وتجارة المخدرات ،وصولاً إلى الأطراف الفاعلة من الدول، وهي القادرة على بناء التحالفات الدولية وتحريك الجيوش والطائرات والصواريخ وتجنيد العملاء . وهذا القطاع الطفيلي الواسع له مصالح ببقاء هذا الوحش طليقا لأن وجوده مرتبط عضوياً ومصالحياً بهذا القطاع.
– ضرورة التركيز على أهمية الفكر والإيمان المطلق بالفكرة والاستماته في الدفاع عنها عن وعي وإدراك وتخطيط وفهم تام واضح وعميق. مثال ذلك أن مقاتلي داعش لديهم إيمان عميق ومطلق بفكرة الجهاد والخلافة.
– أهمية عدم الاستخفاف و الاستهانة والحط من شأن حملة هذا الفكر؛ ثم محاولة شيطنة أصحابه فقط لأن هذا لا يضيرهم ولا يضرهم.
– التأكيد على أن هناك احتمال كبير بفشل الحوار مع أصحاب هذا الفكر؛ وفي النهاية لن يفضي إلا إلى نتائج بسيطة في مقابل فوائد أكبر لأصحاب هذا الفكر؛ أقلها إثبات الوجود والتوسع بالتجنيد والانتشار ، حتى خارج حدود الفضاء الإسلامي أو ما يطلق عليه العالم الإسلامي.
في المحصلة النهائية؛ أعتقد بأن التوظيف الديني والسياسي المعاصر للمصطلح محمّلٌ بوجهات نظر ومقاربات السلطة في كافة الدول العربية والإسلامية. وقد فشل في أن يقدم أي إضافة نوعية في نقد خطاب التطرف الديني والارهاب ؛ أو في جهود مكافحة الإرهاب بشكل عام ، بالعكس فقد عقّد من المسالة أكثر وأعاد تدوير أدبيات الفرق والملل والنحل التي عفى عليها الزمن ، وزاد في نزاع وخلافات المسلمين .
وهنا ؛ قد يتبادر الى الذهن سؤال : ما المصطلح البديل إذن لاستخدام مصطلح “الخوارج” إذا كان لا يخدم جهود مكافحة التطرف الديني والارهاب ؟
أعتقد بأن مسألة استخدام المصطلحات والمفاهيم والأسماء وتوظيفها يقع ضمن فضاء الألعاب اللغوية ومراوغة اللغة. وكما يقول لودفيك فتغنشتاين ” ليس بالإمكان أن اقصد شيئاً بقول شيء آخر إلا في اللّغة “.
ومن هنا يمكننا –مثلاً- أن نقول الخوارج ونقصد الإرهاب أو داعش ، والعكس صحيح . ولكن يمكن أن نقول الخوارج ونقصد شعر الحماسة عند قائدهم وشاعرهم الشهير قطري بن الفجاءة.
أخشى أن يكون بحثي عن مصطلح بديل زيادة في تعقيد المسألة، خاصة وأنه من المعروف في أدبيات ظاهرة الإرهاب أنه ليس هناك تعريف محدد ومتفق عليه للإرهاب، وهناك أكثر من (200) تعريف مشهور.
صحيح أن التطرف الديني والارهاب حايثَ المقدس منذ فجر الديانات في التاريخ البشري ،وليس من السهل فك الربقة بينهما بسهولة ،لكنها تبقى غاية جدُّ مهمة وملحة اليوم على المستوى الاجتماعي والثقافي
ولذلك ؛ أعتقد بأن المطلوب أولاً هو إخراج التطرف الديني والإرهاب من الفضاء العام للأديان في كل الثقافات ، والإسلام بشكلٍ خاص ، وليس الاستمرار في إعادة النظر فيه أو حتى نقده من داخل الدين وتأويلاته والمخاطرة في البقاء ضمن دائرة مفرغة .
وإحدى الوسائل للقيام بذلك هي أن نتوقف فوراً عن استخدام وتوظيف صفات أو أسماء أخرى للإرهاب وتسمية الأشياء بأسمائها؛ حتى وإن كان من العسير فلسفياً وسياسياً وإجرائياً تحقيق مثل هذا الشرط. وأعني بذلك أن ندين بقوة وحزم ونصف أفعال القتل والتدمير والتوحش بــــــ(الإرهاب) ؛ والمنفذين لفعل الإرهاب بـــ (الإرهابيين) ، دون هروبٍ الى الأمام والمراوغة مستغلين فضاء مراوغة ومخاتلة اللغة لنكيّف مسوغات أو أسباب خوفاً أو هروباً من المواجهة مع الذات والمسؤولية الأخلاقية.
-سبق ان نشرت هذه المقالة باللغتين العربية والانجليزية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى .
مدير مركز شُرُفات لدراسات العولمة والارهاب
الدكتور سعود الشَرَفات