أ.د. سالم ساري
أستاذ علم الاجتماع والفكر التنموي – جامعة فيلادلفيا
عضو الهيئة الاستشارية في مركز شُرُفات للدراسات والأبحاث ____________________________________________________________
مقدمة:
العنف والتطرف الديني والارهاب ،مشكلات اجتماعية سياسية قديمة متجددة. شهدتها جميع المجتمعات دون استثناء ، بصورة أو أخرى، في فترة أو أخرى، من تاريخها . فلم تفاجئ المجتمعات الحديثة. ولكنها فاجأت مجتمعنا العربي الجديد ، بهذه الحدة والكثافة والخطورة ، منذ بدايات هذا القرن ، مع بدايات اقترابه من العالم الجديد المعوّلم ، بما يحتَمه من اتجاهات وعلاقات وتفاعلات جديدة تماماً. وكادت الأحداث الإرهابية، بصورتها “الداعشية “الأخيرة ،أن تصيبه في مقتل. فانكشف المستور ” الديني” أمام الواقع “الدنيوي” ، ليس أمام العالم الخارجي فحسب ، وانما أمام الداخل العربي أيضاً، ربما مرة واحدة والى الابد.
ولضخامة حجم هذه الظواهر المشكلة وتعقيداتها وتداعياتها ،أصيب الباحثون في مراكز البحوث والدراسات ،عندنا وفي أمكنة أخرى كثيرة متأثرة في العالم ،بالحيرة والإرباك والقلق ، لا على واقع مجتمعاتهم المصابة فحسب ، وانما على مستقبلها أيضاً.
سارع الغرب المصاب ،في عقر داره، الى الربط المباشر بين الإرهاب والإسلام. مسترجعاً الصورة النمطية المضخمة للإسلام الدموي ألذي انتشر بحد السيف الذي يقطر دماً، وللجهادي الإسلامي الإرهابي ، الفرح بما يقتل . سيطر على الغرب الكلي قناعة كلية تقول حقيقة ثابتة: للعنف والتطرف الديني والإرهاب بلد للمنشأ. والإسلام ، كما كان دائماً ،هو مركز التصنيع والتصدير ، والمسلم هو المنتج والمصدَر للبضاعة المصنَعة البشعة .(Trade Mark ). وأمام الاستعصاء على الفهم والتفسير ،شعر الباحثون الغربيون بالراحة وهم يتخلون عن محاولاتهم العلمية السياسية، ويتركونها مهمة موكلة تماماً لأصحابها الأصليين –السياسيين العرب والباحثين العرب .
وفي محاولاتهم للفهم ، استنفذ الباحثون العرب ذخيرتهم التقليدية من التفسير .وجربوا أسلحتهم القديمة المألوفة من التبرير. فجاءت التفسيرات مغلقة مكرورة ،والتبريرات متشنجة يائسة، تقول الشيء نفسه مرات ومرات ، دون أن تجد لنفسها مخرجاً، تقول شيئًاً كالآتي: هناك فرق كبير بين الإسلام والمسلمين .الإسلام ليس دمويا ، وانما هو سلًمي وعالمي ، وسطي ومعتدل .رحيم وودود. ولكن نفراً ضالاَ من المسلمين فقط هم الذين اختطفوا الإسلام ، وفسروا تعاليمه ، بطريقتهم الآيدولوجية المغلوطة ، فعاثوا فيه فساداً وإفساداً، وأعملوا فيه تخريباً وتشويهاً!!
تجادل هذه المداخلة النقدية أن لا عنف أو تطرف أو إرهاب دون ثقافة تغذيه ، وتتغذى منه ، في الوقت ذاته. فتحاول أن تبيَن أن إشكالية العنف والتطرف والإرهاب هي إشكالية ثقافية مجتمعية بنيوية ،في المقام الأول ، والتعامل مع هذه الظواهر والأفعال والسلوكيات باعتبارها متشابكة متبادلة ممتدة التأثير والتأثر، وتستدعي الورقة ، بذلك، انتقال الباحثين العرب من انشغالهم بتأثيرات البيولوجيا والسيكولوجيا إلى تقديرهم لإسهامات الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا- نظرية ومنهجاً.
ولمواجهة هذه الظواهر المشكلة ، تقترح الورقة آليات تنموية اجتماعية إنسانية ،ليست متجهة فقط لتحرير الحاضر المجتمعي العربي المحاصر بالإرهاب ، وانما لتحرير المستقبل المجتمعي المهدد بهذا الحصار أيضاً، واستهداف مقومات شراكته السوية مع العالم للتخريب والتدمير.
ثقافة التطرف والإرهاب : تجاوز التفسيرات البيولوجية والنفسية
لا يولد العنف والتطرف والارهاب ولادة في أي مجتمع .وانما هو يصنع فيه صناعة اجتماعية ثقافية . وليس هناك وجود لعنف أو تطرف أو إرهاب بالفطرة أو بالوراثة أو بالتوريث. فكما أنه لا وجود ” لجينات” أصلية للإنحراف، أو “لكرموزومات “، إضافية للإجرام ، ولا وجود لتكوينات خلقية للإجرام ، أو علامات جسمية فارقة للإرهاب، فأنه لا وجود لإرهاب تلقائي يحدث تلقائياً بين يوم وليلة. وانما هو عملية اجتماعية ثقافية مكتسبة ، يتم تعلمها واتقانها وتطويرها ، في بيئة اجتماعية ثقافية منحرفة ، إجرامية ، أو إرهابية.
لا يواجه المجتمع العربي ، في الغالب ،عنفاً فردياً خالصاً، ولا يعاني من إرهاب أحادي عابر أو منعزل ، بقدر ما يواجه عنفاً عاماً ، وإرهاباً جمعياً مشتركاً .شديد العمومية والتراكم والانتشار . وحتى ما يوصف اليوم ” بالذئب المنفرد”، الذي يستعرض مهارته الارهابية متفردا ،ويظهر وحيدا منفصلاً في المشهد الإرهابي ( One-Man-Show ( ليس ,بالفعل ،وحيدا تماماً ، وليس ، بالممارسة ، منفصلاً بالمرة. وانما هو يؤدي عمله ضمن جماعة ، حسية أو مرجعية ،ومجموعة عنيفة، ويتغذى من ثقافة أو مجتمع إرهابي مكتمل التكوين.
يتم تعلم السلوك اللااجتماعي المنحرف عبر عملية التنشئة الاجتماعية الشاقة المستمرة نفسها التي يتم بها تعلم السلوك الاجتماعي السوي. ولكن بمؤسسات واتجاهات وتوجهات مغايرة .الشخصية العنيفة او المتطرفة أو الارهابية هي اجتماعية الصنع والتشكيل . وكذلك هي الشخصية الوطنية المسالمة ، والهوية الاجتماعية ، والامراض النفسية ، والمشكلات الاجتماعية ..كلها أنماط اجتماعية مؤطرة ثقافياً، وانتاجات ثقافية مجتمعية الصنع والتكوين والتشكيل والتلوين.
الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا ، وليس البيولوجيا والسيكولوجيا ،هي التي تحيط بالعمليات الثقافية الاجتماعية لتشكّيل الأفراد وتوجيههم وطبعهم بطابعها المميز. وفي هذه المهام، الاجتماعية الثقافية ، في التشكيل والتكوين والتوجيه ،تتفاوت المجتمعات ، وتختلف الثقافات .
ويلاحظ دينيس كوش ، الأنثروبولوجي الفرنسي المعروف أن النسبية الثقافية يمكن أن تكون للباحث منهجاً قبل أي شيء آخر ، وربما أكثر من أي شيء آخر، تلزمه كباحث أن لا يعمد الى المقاربات بأفكار مسبقة ،ولا يلجأ الى مقولات خاصة للتأويلات ( الثقافية)، ولا يتورط في مقارنات متسرعة بثقافات أخرى. ، يذهب كوش إلى التأكيد أنه لا يمكن معاينة “الطبيعة” الإنسانية إلا وقد حولتها الثقافة.
ولأهمية هذا التأثير الثقافي ( الكلي أحيانا )في أنماط الفكر والفعل والسلوك في المجتمعات الحديثة ، كان في إعادة إكتشاف الثقافة في العلوم الاجتماعية والانسانية ، يكمن السر والسحر كله_ ليس في تفسير السلوك الاجرامي فحسب ، وانما في تأطير الفعل الاجتماعي السياسي الاقتصادي العلمي التعليمي والاعلامي ..كله.
السرّ والسحر في هذا الاكتشاف أن الباحثين على وعي اليوم أن وراء كل علاقات اجتماعية سوية مع الذات والاخر ثقافة مجتمعية سوية بالتأكيد. وتقف وراء كل علاقة داخلية أو خارجية عنيفة أو متطرفة لحظة ثقافية دافعة . كما تحيط ثقافة مجتمعية محبطة معوّقة أو رافضة للتغيير وراء كثير من المشروعات النهضوية الفاشلة ، أو برامج الاصلاح والتحديث العقيمة ، أو الشراكات السياسية الاجتماعية المتعثرة .
فما هي الثقافة ، إذن؟
تتصل الثقافة بالمجالات الرمزية ،الفكرية والروحية والمثالية، للنشاطات الإنسانية والإنتاجات المجتمعية ، لمجتمع معيّن ومحدد الهوية، في الزمان والمكان . والثقافة ، بهذا التعريف، نسق كلّي معقّد ، يشتمل على مجموعة مترابطة من المعتقدات والأيديلوجيات ، المعارف والخبرات ،الآداب والفنون ،السنن والأعراف ، النظم والتنظيمات ،القوانين والأخلاقيات ،العادات والتقاليد والشعبيات …التي تشكّل جميعا مركّبات ذاتية Subjective وأنساق قيمية معيارية.
( وتختلف الثقافة ، بهذا المعنى ، عن الحضارة التي تتصل بالمظاهر و التجسيدات المادية الملموسة، والقيم الانسانية العالمية الراقية. لتشتمل على مناهج العلوم ونتائجها ، النظم العلمية والتطبيقات العملية ، الاكتشافات والابتكارات والاختراعات، الآلات والأدوات والتقنيات ، التي تشكّل جميعاً إنجازات متماسكة واسهامات عالمية موضوعية Objective ) والثقافة منظومة مرجعية محددة للعقل والتفكير ، ومقيّمة للفعل والتدبير، لكل من الأسوياء والإرهابيين ، على حدّ سواء. الثقافة هي التي توجّه سلوك أفرادها ، وتمدهم بطرق خاصة للتفكير والتدبير ، وتشكّلهم على صعيد الذوق والتفضيلات، وتلوّن نظرتهم إلى الذات والآخر ، وترسم لهم خرائط ذهنية للعالم ، وتحدد نظرتهم الى الله والطبيعة والكون ،الوجود والخلود ..الخ وبهذه المنظومة الثقافية المرجعية العامة، تشترك مكونات المجتمع العربي وطبقاته وشرائحه الاجتماعية جميعاً. يتقاسمون قيم ومعايير ,واتجاهات وتوجيهات الثقافة المجتمعية الكليةOver-all Society Culture كمرجعية كلية- وان كانوا يختلفون داخل المجتمع الواحد ، حتى في أكثر المجتمعات تجانساً ، في تطوير قيم واعتقادات واتجاهات خاصة ، لثقافاتهم الفرعية Sub-Cultures المتعددة المتباينة بتعدد وتباين الطبقة الاجتماعية ،المكانة السياسية والاقتصادية ، المستوى العلمي التعليمي، الدين ، المهنة ،العمر ، الجنس ..الخ… فلكل من مجموعات الأغنياء والفقراء ، العمال والناشطين السياسيين ، رجال الدين وحراس الأخلاق الاجتماعية ، رجال الجيش والقبيلة ،أصحاب المال والاعمال، النساء وكبار السن والشباب ..الخ ثقافاتهم الفرعية الخاصة المميزة ،داخل الثقافة المجتمعية العامة الواحدة ، متكيفة متعايشة معها أحياناً ، ومنشقَة متمردة عليه أحياناً أخرى. ولكن هذه الثقافات الفرعية جميعاً مازالت عندنا متصلة مع الثقافة المجتمعية الكلية ، وليست منفصلة عنها ، تنهل من منابعها الكلية وتتغذى من مصادرها العريضة. وغير قادرة (أو راغبة ) في الدخول في حرب معها. -وما زالت ثقافتنا المجتمعية الكلية محافظة النزعة ، مغلَفة بغلاف ديني محيط .وما زالت تملؤها الثوابت وليس المتغيرات. -وما زالت تملأ حياتنا الاجتماعية السياسية الاقتصادية سلسلة التابوهات الثقافية السياسية الاجتماعية المتماسكة ا الثلاث الكبرى: حرام – ممنوع- عيب! تحاصر كل أنماط التفكير والفعل والتدبير . وما زال الإنسان العربي ،تحت ضغوط هذه الثقافة لا يقوى على العيش مستقلاً منفردا بوعي ومسؤولية ،وانما يستمرأ العيش ، بمنافع شتى ،داخل محمياته الطبيعية الثلاثة الكبرى: الدين – العشيرة – الدولة ! -وما زال كثير من عاداتنا وتقاليدنا ، وأنماط تفكيرنا وأفعالنا وسلوكياتنا -حتى أكثرها التصاقا بالدين – ليست دينية فعلاَ ، وانما هي ملتبسة بالدين، متسترة به. وأكثر ما يكون هذا التوجيه الديني الملتبس التصاقاً وتكثيفا في الثقافة الشعبية Popular Culture – ثقافة الناس العاديين من الفقراء والعمال والفلاحين, والشرائح التابعة لضعيفة المهمشة .وأكثرها ابتعاداً عن الاختلاط الديني الملتبس هي ثقافة النخبة Elite Culture – ثقافة الصفوة من الأثرياء والرأسماليين والأرستقراطيين. ولا يطغى على مجتمعنا ، بالطبع، ثقافة نخبوية مولدة للتفكير الحر ،والفعل العقلاني، والسلوك الناضج، وانما ثقافة شعبية يحكمها العقل الجمعي ، المكوَن( بفتح الواو) ثقافيا. وليس علمياً موضوعياً محايدا. هذه الثقافة الشعبية ، الأكثر عدداً والأشد انتشاراً ، هي الحاضنة التاريخية للثقافة المجتمعية العامة . هي التي تسيطر على الذهن الشعبي العام، وتشحن أفرادها بأنماط من القيم والمعايير المثالية، الاعتقادات والمعتقدات الدينية ، وتملأ رؤوسهم بكثير من الصور المضخمة والتصورات المغلوطة . يدافع عنها أصحابها باعتبارها صحيحة بحد ذاتها (دون الالتزام بتقديم الدليل الملموس على صحتها )تستحق الدفاع عنها والتضحية من أجلها. والناس يموتون حقاً ، كما يذهب فلاسفة الفكر الديني الاجتماعي ،من أجل ما يؤمنون به كحقيقة ، وليس من أجل ما يعرفون أنه حقيقة. وهذه الثقافة الشعبية السائدة عندنا اليوم ما زالت هي البيئة المثالية لتوليد العنف والتطرف والإرهاب ، وتزويد أصحابها بالدوافع والحوافز والمبررات، ،وتوفير الدعم و الحماية والرعاية ، والتسامح مع الأفعال والمواقف والمفردات ذات الصلة.
هل تحتمل الثقافة التغيير ؟
تمتلك الثقافة حجماً ضخماً من القوة ، و تمارس كمَاً هائلاً من التأثير على أتباعها .وتتغلغل أفكارها وقيمها ومعتقداتها على شتى تفاصيل حياتهم .ورغم هذه القوة والتأثير والامتداد ، فإن الثقافة ليست قوة حتمية ،أو سلطة قدرية ، أو معطى أبدياً ثابتاً ، بمعنى أن أي مجتمع لا يملك إلا التكيف مع ضغوطها دائماً، ولا خيار أمام الأفراد إلا الاستسلام لتأثيراتها دوماً. فالثقافة تنتج المجتمع على صورتها حقاً. ولكن للمجتمع القدرة على إعادة إنتاجها على صورته أيضاً. فالثقافة الحية إضافات مستمرة ، مخزون متجدد ، يعيد الأفراد الفاعلين المؤثرين إنتاج رموزه ،وتجديد أفكاره وقيمه ومعاييره .
للثقافة تكوينها الوجودي الذي ينزع بها نحو السكون والثبات .وللثقافة تجربتها التاريخية المزمنة التي تحمّلها بالعراقة . كما أن لها طابعها الديني الذي يغلّفها بالقداسة . ولكن للثقافة الحيّة أيضاً ديناميكيتها للتغيير. لأنها ليست مبنية على الانغلاق المحكم، وانما على مبدأ التفاعل الدائم ، بين الأنا والآخر ،بين الإنسان وبيئته المادية ، بين المجتمع ومحيطه الموضوعي .(2)
وللثقافة هدفها الأول والأخير، المعلن والمستتر: تحقيق إنسانية الإنسان. وذاك هدف ثقافي إنساني نبيل وطموح ، يجعل للثقافة مهمة انسانية حضارية غير- مكتملة أبداً. ويجعل من التنمية جهد اً مجتمعياً إيجابياً ، وتهذيبا مستمراً ، ومحاولة جمعية إرادية دؤوبة للرقي والتقدم ، للوصول إلى النضج الإنساني والكمال المجتمعي معاً. . وربما لولا هذه الصيغة من “عدم الاكتمال” ،وهذه القابلية المحتملة للتغيير والتأثير، لأصبحت الثقافة ، أي ثقافة ، عبئاً ثقيلاً لا يقوى على حمله الأفراد في المجتمعات المعاصرة. وهذه القابلية المتضمنة في فكرة الثقافة هي التي تجعل التغيير التنموي ممكناً .
ومع هذه الإمكانية ، لا يمكن للثقافة العربية التقليدية ، بما هي عليه ، أن تتغير بنفسها أو من تلقاء نفسها. فقد مضى عليها قرون دون أن تفعل ذلك طواعية ، خياراً أو قراراً. ولكن إمكانية التغيير لا تصبح إمكانية فعلية اليوم إلا بالتفاعل والشراكة والتواصل مع ثقافات العالم .
ولكن أمام محاولات التعديل والإصلاح والتحديث الاجتماعي والسياسي المدني المستحق ، ما زالت تقف مجموعة من الإشكاليات الثقافية العربية التاريخية الصلبة(3) :
-إشكالية تقديس الإرث الثقافي -إشكالية تعظيم الخصوصية الثقافية -إشكالية إنكار الكونية الثقافية
وتحمل هذه الإشكاليات مجموعة مطابقة من الشكوك والمخاوف والمخاطر الثقافية ، التي تستبطن العقل الثقافي الشعبي، كلما واجهته استحقاق التغيير والتحديث والتأثير، ومطالب التفاعل والتثاقف والتواصل ، مع الآخر العالمي:
-الخوف من ” الغزو الثقافي” :إذا كانت الثقافة العربية الإسلامية قوية عريقة حصينة حقاً.. فمما تخاف إذن؟؟
– الخوف من ” التلوث الثقافي” : إذا كانت الثقافة العربية “أصيلة” “نقية ” “محصنة” فعلاً ..فكيف تخاف إذن؟
-الخوف من ا”لهيمنة الثقافية”: إذا كانت الثقافة العربية تمتلك قيماً إنسانية عالمية عظيمة.. فلماذا الخوف إذن؟
وفي حين تواجه الثقافة العربية بعجزها عن إجابة أسئلة التغيير والتنمية والتحديث ، بالتفسير ،فإنها تهرب دائماً إلى نوعين من التبرير :
-الخصوصية الثقافية
– الهوية الدينية والقومية
كيف يمكن التحوّل المجتمعي إلى ثقافة مدنية حديثة؟
ما دامت الإشكالية التنموية هي إشكالية ثقافية في المقام الأول ، فيمكن التفكير بخطوات استراتيجية ثلاث:
- أولاً: نزع القداسة عن الثقافة: وهذه مهمة سياسية تتقاسمها وزارات الدولة الرسمية للثقافة،
والمؤسسات والروابط والاتحادات الثقافية العربية والإسلامية (مثل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ISESC0 ) وبدلاً من دعواتها الدائمة للحفاظ على ثقافتنا لعربية الاسلامية ثابتة مثبتة على ما هي عليه (بقضّها وقضيضها)، يمكن التفكير بتدبير الشأن الثقافي الحديث بالتدبر بالحقائق الواقعية البسيطة التالية:
-ثقافتنا العربية ، مثل أي ثقافة أخرى ، ثقافة دنيوية .لا شيء فيها مقدس حقيقة. وانما كل ما فيها هو من صنع أصحابها ، مشبّع بأسلوبهم المميز في الحياة ، ويحمل بصماتهم ، ولونهم ، ورائحتهم
-ا لكثير مما في ثقافتنا العربية الراهنة ، مثل أي ثقافة أخرى ،”مدنّس ” لكثرة ما ترسّب فيه ،أو أضيف إليه ، أو أقحم فيه ، بوعي أو بإهمال ، من ممارسات أو اعتقادات ودلالات مغايرة لمصادر الثقافة العربية الأصلية ، وقيمها ومضامينها واتجاهاتها ومقاصدها الإنسانية المتوقعة.
-الثقافة العربية السائدة اليوم ، ربما أكثر من أي ثقافة أخرى، لا شيء فيها مختلف عما يعطيه مجتمع ساكن ، معطّل عن الحركة والتأثير ، من قدسية شعبية للقوى نفسها التي تعمل على سكونه وتجميده وتعطيله. ولا يمكن لمجتمع نهضوي حديث ، كمجتمعنا الأردني الجديد ،أن يستمر بالجمع بين القديم (المعطًل) والحديث (المفعَل) للتغيير والتنمية والتأثير ، إلا بنفاق كبير وازدواجية محيًرة.
- ثانياً: تهيئة الثقافة العربية اليوم لمواجهة تحدياتها الكبرى: التعددية والاختلاف، الشراكة والاندماج:
فبدل الدعوات والسياسات والمناهج والبرامج التقليدية “للمحافظة” على ثقافتنا العربية التاريخية العريقة المتميزة، والانغلاق يما هي عليه من كريهات وتعصبات وتحيزات ، على مؤسسات الثقافة العربية إعلان قطيعة نهائية وحازمة مع كل ما هو خرافي لا عقلاني ،لا إنساني ولا أخلاقي في ثقافتنا العربية . وتوجيه المثقفين العرب إلى كل ما هو ليبرالي إنساني حر وكريم في أعمالهم وحواراتهم وندواتهم ، والنقد الصريح لكل ما هو بيروقراطي متعصب متصلب في نظمنا ومؤسساتنا وعلاقاتنا العربية.
وإذا كانت مهمة الدفاع عن الثقافة العربية التقليدية هي مهمة إعتاد عليها الجيل الأكبر سناً، فإن التجربة الثقافية الشبابية الأردنية ،مثلاً ، تنجح في التحرر من حصار الثقافي المحلي الضيق الساكن ، والخروج إلى آفاق العالمي الواسع المتحرك(4)
الأولوية الثقافية المجتمعية الصارخة هي لتطوير ثقافة مجتمعية مدنية حديثة قابلة للحياة والتجدد . يكون فيها مكان واسع للتنمية السياسية المعمقة : حرية ،ديمقراطية ،عدالة اجتماعية ، حقوق إنسان، كرامة إنسانية. وهذه المضامين التنموية ، بالضبط، هي المطالب الشعبية التي حملتها حراكات الشوارع العربية وثورات ميادين الربيع العربي .( واذا كان بعض السياسيين والمنظَرين والإعلاميين يبرزون الأولوية الاقتصادية أولاً ، فليس ذلك إلا تجاهلاً أو تزييفاً للمطالب الشعبية الصارخة، والالتفاف على اعتقادها الراسخ أن ” ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”
- ثالثا: تأهيل الثقافة العربية للشراكة مع العالم ، والتفاعل والتواصل والحوار السوي مع الثقافات
العالمية الأخرى. وهذه مهمة ثقافية ضرورية لا يحتمها فقط بناء الاستراتيجيات والهيئات ومراكز النزاهة والشفافية الوطنية( لمكافحة العنف والتطرف والإرهاب والفساد ، مثلاً ) ، وانما يحتمها استيعاب قافتنا الشعبية للاتفاقيات والمعاهدات والتحالفات الدولية ( التحالفات الدولية ضد العنف والتطرف والارهاب ، اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد، مثلاً) فنجاح أو فشل تلك الاتفاقيات ليس شأناً سياسياً أو قانونياً أو عسكرياً فحسب ، وانما هو شأن ثقافي مجتمعي ، بداية ونهاية. ( ولا بد من الإقرار اليوم أن سنّ قوانين ضد التطرف الديني والإرهاب والكراهية والرشوة والفساد .. أسهل كثيراً من إلغاء الثقافات المجتمعية الراسخة لتلك الأمراض الاجتماعية والتهديدات السياسية الكبرى – ثقافة التطرف والارهاب والكراهية والرشوة والفساد !)
لا بد للثقافة العربية من إدراك أن العولمة اليوم حقيقة كبرى من حقائق العالم .بل هي ،بمفاهيمها وآلياتها ومؤسساتها واهدافها ،الحقيقة الأكبر. والعولمة أيضاً، بقدراتها الفعلية والممكنة ،هي المخبر العالمي الضخم لتقييم الثقافات و السياسات او الممارسات للدول والمجتمعات. ولا تقيَم أية ثقافات أو إنجازات اليوم بمعايير ومقاييس ومواصفات محلية خاصة متحيزة ومضللة، وانما بأخر موحدة عالمية موضوعية ونزيهة
وما دامت المشكلات الاجتماعية الثقافية السياسية (التطرف والإرهاب ، الفقر والبطالة ، الاستبداد والفساد، الطائفية والمذهبية، ..‘ تشخّص و ترصد وتقاس عالمياً، والتنبؤ بخطورتها وامتداداتها وتداعياتها بالمنظور والمرصد العالمي نفسه، فإنها تتحول من شأن ثقافي مجتمعي خاص الى شأن ثقافي عالمي عام . تستدعي عولمة الثقافة العربية، بالضرورة ،عولمة الحلول بالتنمية والاصلاح والتحديث ،كما هي شراكة في إدارة المخاطر والتهديدات والمخاوف الاجتماعية السياسية الكبرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- مداخلة في ندوة” مقاربات استشرافية في كيفية مكافحة التطرف والإرهاب ..”، نظمها مركز شُرُفات للدراسات والأبحاث – العولمة والإرهاب . عمان – الأردن . ، تحت فعاليات المفرق مدينة للثقافة الأردنية ،7-9 آب بالتعاون مع بيت الحكمة في جامعة آل البيت 2017. ستنشر مع بقية الأوراق في كتاب يصدر عن مركز شُرُفات بدعم من وزارة الثقافة الأردنية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- المراجع :
(1)دنيس كوش(2007) ن مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية(ترجمة منير السعيداني ) ، المنظمة العربية للترجمة ، بيروت،ص-74.
(2) سالم ساري(2014) ، ثقافة التنمية أ الفاعل والمعطل في الثقافة العربية اليوم، دار كنوز المعرفة، عمان، ص15-25
(3) المرجع نفسه، ص 56
(4)سالم ساري(2017)ثقافة الشباب واشكالية تحديث وقائع الحياة الأردنية، ص23-55، في الشباب التجليات وآفاق المستقبل، أوراق علمية محكمة ، مؤتمر فيلادلفيا الدولي العشرين .