د. سعود الشرفات
أعتقد أن الأميركي من أصل أفغاني عمر صديق متين، الذي ارتكب العملية الإرهابية في الملهى الليلي للمثليين في أورلاندو بولاية فلوريدا الأميركية، يجسد مفهوم “الذئب المنفرد” بوضوح.
أركان هذا الاعتقاد الرئيسة -حتى الآن- هي: أولاً، إعلان المذكور شخصياً أنه بايع تنظيم “داعش”. وثانياً، إعلان “داعش” أن المذكور ينتمي له. وثالثاً، توفر ركن الصفة الرئيسة للإرهاب، وهي اشتماله على معيار استخدام العنف والتهديد باستخدامه. وهذا المعيار، بشكل عام، هو الوحيد الذي يحظى بإجماع الباحثين في ظاهرة الإرهاب. ورابعاً، التأثير النفسي-السايكولوجي، من خلال إثارة الخوف والترويع والصدمة. وخامسا، الأهداف السياسية، على اعتبار أن العملية تكتيك سياسي لإيصال رسالة للشعب الأميركي والإدارة الأميركية بأن التنظيم (“داعش”) قادر على ضرب أميركا، لاسيما أن العملية رغم هشاشة الهدف وصفت بأنها الأعنف في التاريخ الأميركي بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وكأن “داعش” يريد القول -ربما- بأنه ليس أقل قوة من تنظيم “القاعدة” المسؤول عن تلك الهجمات. والسبب الأخير، وهذا قد يكون سببا فرعيا لكنه مهم وخطير، هو حديث مرشحة الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأميركية هيلاري كلينتون، بأنها ستجعل من محاربة ظاهرة “الذئاب المنفردة” ضمن أولوياتها إذا ما فازت في الانتخابات.
بالطبع، هناك جدل وخلاف كبيران بين الأميركيين حول توصيف الهجوم في أورلاندو، خاصة أن الرئيس باراك أوباما وصف العمل بأنه عمل إرهاب وكراهية، وتطرف نشأ داخل البلاد. وهو ما يعرف في أدبيات الإرهاب الأميركية باسم “الإرهاب الناشئ محلياً”. وحجة أوباما أنه لم يثبت حتى الآن أن عمر متين تلقى دعما من الخارج، مع ضرورة الإشارة إلى أن مكافحة هذا النوع من الإرهاب كانت على أجندة أوباما سابقاً.
أما على الجانب الاستخباري، وهو الأهم في هذا المشهد؛ فإن مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف. بي آي” (FBI)، وهو المعني الأول بمتابعة العمليات الإرهابية الداخلية، ما يزال -لشديد الأسف- مرتهنا لعقلية مغلقة تركز على تجارب تعامل المكتب مع الجماعات والمليشيات الأميركية المتطرفة. إذ يُصر الـ”إف. بي. آي” أنه حتى يكون العمل إرهابيا، فإنه يجب أن ينفذ عن طريق جماعات متشابهة الأهداف (Like-Minded) وليس عن طريق أفراد يعملون وحدهم. وقد سبق أن أشرت إلى هذه المعضلة في مقال سابق في “الغد” حول ظاهرة “الذئب المنفرد”.
المثير في الأمر أن توقيت العملية (مع تعازينا الحارة للشعب الأميركي وعائلات الضحايا، وشجبنا الشديد لهذه العملية) جاء متزامنا مع حمى الانتخابات الرئاسية، وهو ما لفت الانتباه أكثر من أي وقت مضى لخطورة هذه الظاهرة، وأعاد موضوع مكافحة ما يسمى “الإرهاب الإسلامي” إلى واجهة المشهد السياسي الأميركي، مع تراشق عنيف بين المتنافسين على الرئاسة؛ هيلاري كلنتون ودونالد ترامب، يثير سؤال من سيستفيد من التوظيف السياسي لهذه العملية أكثر. لكن المؤكد أن العملية ستنعكس سلباً على الجاليات الإسلامية، مع زيادة وتيرة “الإسلامو-فوبيا”.
المهم، من وجهة نظري، ضرورة استيعاب الدروس، وإدراك أن الجماعات الإرهابية تستغل آليات العولمة، وقد تطورت تكتيكيا بتسارع أكثر من الدول وأجهزتها الاستخبارية. وهو ما يمكن أن يلحظه المتابع في أدبيات منظري تنظيمي “داعش” و”القاعدة”، خاصة العدناني وأبو مصعب السوري، عبر تأكيدهما على عدم مركزية التنظيم، وإعطاء الأعضاء أو المناصرين حرية الحركة والفعل. وهو أمر عقّد مهمة الأجهزة الاستخبارية العالمية في متابعة هذه الظاهرة التي تعتبر الثمرة الشيطانية لسيرورة العولمة.
في النهاية، نقول إن مقتل العمل الاستخباري وجهود مكافحة الإرهاب، المعولم أو الداخلي، هو الفشل. لأن الدرس الأول (ألف باء) في العمل الاستخباري كعلم وممارسة، هو أن “العمل الاستخباري لا يحتمل الفشل”. وروح هذا العمل هو العمل الوقائي، من خلال الحيلولة، بالسبل كافة، دون وقوع العمل الإرهابي، وليس إطفاء الحرائق بعد اشتعالها، وإحصاء عدد القتلى والجرحى وإخلاءهم. مع احترامي الشديد لرجال المطافئ. والمخيب للآمال أن الإرهاب المعولم، وعلى رأسه الآن ظاهرة “الذئب المنفرد”، حوّلت الأجهزة الاستخبارية العالمية إلى ما يشبه دوائر مطافئ كسولة.
المصدر : صحيفة الغد ، الأربعاء 15-6-