مرت التجربة الأردنية الخاصة بكيفية التعاطي مع إدارة أزمة وباء كورونا بمرحلتين مهمتين لكلٍ منهما مميزاتهما الخاصة؛ الأولى، ويمكن أن نسميها مرحلة “الأمننة الكلية”؛ من منطلق أنّ الوباء ظاهرة معولمة، ولم يكن الأردن استثناء منها، وبدأت بتاريخ 2 آذار (مارس) 2020، عندما أبلغ رئيس الوزراء الأردني عمر الرزاز عن أول حالة إصابة بفيروس كورونا في البلاد واستمرت هذه المرحلة حتى بداية شهر أيلول (سبتمبر) 2020.
مرت التجربة الأردنية بالتعاطي مع إدارة أزمة كورونا بمرحلتين يمكن تسمية الأولى “الأمننة الكلية”
في هذه المرحلة، اختار الأردن، في استجابته لإدارة أزمة وباء فيروس كورونا اتخاذ أشد التدابير صرامة لإعطاء الأولوية “للصحة العامة” على حساب الاقتصاد” من خلال تأطير الاستجابة للوباء كقضية “أمن قومي” تهدد الدولة والمجتمع على حد سواء، وتوظيف اللغة والخطاب الرسمي لحشد التعبئة والتأييد من المواطنين لهذه السياسة.
تميزت هذه المرحلة في أنّ الأردن نجح بمعايير محاصرة الوباء من خلال تطبيق التدابير والإجراءات الأكثر صرامة في العالم من خلال عملية الأمننة التي تجلت بشكل كبير من خلال إصدار العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في 17 آذار (مارس) 2020 مرسوماً ملكياً بالموافقة على قرار مجلس الوزراء بإعلان تنفيذ قانون الدفاع الوطني رقم 13 لسنة 1992 في الأردن، وذلك اعتباراً من يوم الأربعاء الموافق 17 آذار (مارس) 2020.
ثم تبع ذلك إصدار ما مجموعه 15 أمر دفاع بناء على “قانون الدفاع الوطني” منذ بداية الأزمة حتى 15أيلول (سبتمبر) 2020، والتي تضمنت إجراءات كثيرة أهمها: حظر التجول، وحشد ونشر قوات الأمن والجيش في الشوارع والساحات العامة، وإطلاق صفارات الإنذار، واعتقال المخالفين، وتنظيم سوق العمل والعمال وحظرت الحكومة الأردنية جميع رحلات الطيران من 17 آذار (مارس) في إطار جهود مكافحة الجائحة، وأغلقت المملكة نقاط العبور الحدودية مع سوريا ومصر والعراق مع الإبقاء على عمليات نقل البضائع.
بسبب المفاضلة بين الصحة العامة والاقتصاد تفاقمت المشاكل وتم شل معظم القطاعات في سبيل المحافظة على صحة المواطن
لكن مشاكل الاقتصاد الأردني مزمنة، وكانت تتفاقم خلال هذه المرحلة، حيث يواجه الاقتصاد الأردني تحديات قاسية تزداد وتيرتها سنوياً، متجسدة بارتفاع مستويات الفقر والبطالة والعجز في الموازنات وانخفاض إيرادات البلاد، وارتفاع الدين العام ومعدلات الضرائب، وكلفة اللجوء السوري وضعف مصادر التمويل وتراجع الإيرادات، وتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الاقتصاد الأردني بنسبة 3.7 في المائة هذا العام نتيجة تعطل قطاع الخدمات الذي يشكل 68% من الناتج المحلي الإجمالي؛ ففي الفترة بين منتصف آذار(مارس) ومنتصف أيار (مايو) 2020، فقد حوالي 40 بالمائة من الأشخاص في الأردن أعمالهم أو وظائفهم تماماً، وفقًا لدراسة أجراها مركز (فينيكس) الأردني لدراسات الاقتصاد والمعلوماتية.
والأردن من بين أكثر البلدان التي تضررت من فيروس كورونا من حيث تراجع معدلات النمو المقدر أن تنخفض بنسبة 3.4% بحسب البيانات الحكومية، إضافة إلى ارتفاع المديونية والفقر والبطالة الى أكثر من 20%، ووفقاً للتقديرات الحكومية فإنّ الاقتصاد الأردني يخسر يومياً حوالي 140 مليون دولار بسبب كورونا، كما أنّ القطاعات الاقتصادية طالتها خسائر مفاجئة بسبب توقفها عن العمل نتيجة الحظر الشامل والجزئي الذي تطبقه الحكومة منذ آذار (مارس) 2020، لاحتواء الفيروس.
وكان رئيس الوزراء الأردني قد أكد خلال مؤتمر صحفي مطلع حزيران (يونيو) الماضي أنّ بلاده تأثرت سلباً بمرض فيروس كورونا، وتأثرت عدة قطاعات بهذه الأزمة تأثراً كبيراً مثل قطاع السياحة؛ حيث انخفضت عائدات السياحة في الأردن بنسبة 36.6 في المائة في الأشهر الأربعة الأولى من العام 2020، بما قيمته 784 مليون دينار (نحو 1.12 مليار دولار)، بحسب ما أظهر تقرير حديث للبنك المركزي الأردني، ويساهم قطاع السياحة في الأردن بحوالي 10 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ويوظف أكثر من 55 ألف عامل في هذا القطاع الحيوي للمملكة، التي لا تمتلك ثروة نفطية.
الأردن من بين أكثر البلدان التي تضررت من فيروس كورونا من حيث تراجع معدلات النمو
وقدر اقتصاديون أردنيون، مثل الدكتور محمد الحلايقة، حجم خسائر الاقتصاد الأردني، “إذا استمر الإغلاق حتى نهاية شهر نيسان (أبريل)، بأنها لن تقل عن 2.5 مليار دينار” (3.5 مليار دولار)، وأن خسائر الإغلاق سوف تتسبب في “اختلال معادلة الموازنة بمعنى أن الإيرادات المتوقعة لن تتحقق كما أن نسبة النمو لن تتحقق، وهذا سيضيف إلى الصعوبات وربما تضطر الحكومة إلى تعديل قانون الموازنة وهذا يتطلب انعقادا لمجلس الأمة”.
من جهته أكد وزير المالية الأردني، محمد العسعس (أيار/ مايو 2020) أنّ كورونا سيترك أثراً سلبياً عميقاً على الوضع المالي، موضحاً أن المالية العامة للبلاد ستتضرر بشدة من فاقد الإيرادات الناجم عن تأثير فيروس كورونا على اقتصادها.
وقال العسعس، في تصريحات نقلها التلفزيون الأردني، إنّ أولويات ميزانية الحكومة للعام 2020 ستتأثر أيضاً نتيجة للتراجع الحاد في النشاط الاقتصادي على خلفية إجراءات العزل العام المفروضة لوقف انتشار الفيروس، وفي مقابلة أجريت معه في شهر حزيران (يونيو) 2020 لوكالة أنباء “شينخوا” قال إنّ “عجز الموازنة العامة للدولة الأردنية سوف يتسع بمقدار 1.4 مليار دولار أمريكي إضافية في عام 2020.
في المحصلة؛ تميزت هذه المرحلّة بعملية المفاضلة بين: الصحة العامة من جهة، والاقتصاد الوطني من جهة أخرى، ونتيجة لذلك وجد الأردن نفسه اليوم أمام ما يسمى “معضلة الأمننة” إذن، بسبب المفاضلة بين: الصحة العامة والاقتصاد، حيث تفاقمت المشاكل الاقتصادية وتم شل معظم القطاعات الاقتصادية في سبيل المحافظة على صحة المواطن.
المرحلة الثانية من المواجهة
لم يعد بمقدور الاردن الاستمرار في المرحلة الأولى –مرحلة المفاضلة- تحت ضغوط كثيرة ومتعددة أهمها مطالب القطاعات الاقتصادية، حيث أخذ العديد من رجال الأعمال في الأردن بممارسة الضغوط على الحكومة للسماح للقطاعات الاقتصادية بممارسة أعمالها بشكل طبيعي، بحجة أن عجلة الاقتصاد يجب أن تستمر، حتى وان ترتب على ذلك تبعات صحية على حياة العاملين، إضافة الى الخشية من استمرار حالة الأمننة الكلية وتخوف الناشطين السياسيين وحركة المعارضة في الأردن وبعض منظمات حقوق الإنسان العالمية من أن يؤدي استمرار الحكومة في عملية الأمننة على المدى الطويل إلى تدهور المعايير الديمقراطية وتقليص الحريات العامة وحرية الصحافة والإعلام.
لم يعد بمقدور الاردن الاستمرار في المرحلة الأولى
في النهاية؛ سمح الأردن برفع قيود الحظر الشامل في البلاد منذ نهاية مايو (أيار) الماضي، وأتاح حركة المواطنين ضمن نطاق زمني محدد، وذلك مع عودة معظم القطاعات الاقتصادية إلى العمل، مع الإبقاء على استثناءات محدودة في الغلق، مثل المدارس والجامعات والحدائق والمتنزهات وأماكن الترفيه وصالات الأفراح ودور السينما.
ثم دخل الأردن المرحلة الثانية؛ التي بدأت منذ أوائل شهر أيلول (سبتمبر) 2020 حين واجه “معضلة الأمننة”، حيث تحوّل مُجبراً نتيجة للضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والشعبية، من مقاربة المفاضلة بين الصحة العامة والأمن، الى مقاربة التوازن بين الصحة من جهة والاقتصاد من جهة أخرى.
وترافق ذلك كله مع زيادة فتح القطاعات الاقتصادية ورفع الحظر على الحركة والسفر وفتح المطارات وزيادة حالات الإصابة بالفيروس بشكل متزايد ويومي منذ بداية شهر أيلول (سبتمبر) 2020، وهذا ما أكده الناطق باسم اللجنة الوطنية للأوبئة الدكتور نذير عبيدات في 9 من الشهر ذاته 2020 حينما قال: “بأنّ عودة القطاعات للعمل لا يعني أننا نعظم الاقتصاد على الصحة، ولا يمكن لأي دولة أن تبقي قطاعاتها مغلقة”، وهو ما شدد عليه مسؤول ملف كورونا في وزارة الصحة عدنان إسحاق في تصريحات لتلفزيون المملكة.