من الهرمية إلى الشبكية
مراجعة الكتب
الدكتور سعود الشرفات
21/07/2020
أن تكون عربياً وتعيش في الدول العربية، وتنشغل بمتواليات ما يُسمّى بالثورة الصناعية الرابعة، أو عصر “نيرفانا” التكنولوجيا؛ يبدو من الترف الفكري الزائد عن الحاجة على الأقل، لأنك لا تعدو أن تكون متفرّجاً في الصفّ الأخير من مسرح الأحداث والتطوّرات العلمية والتكنولوجية المتسارعة في الغرب وأجزاء من شرق آسيا في حقبة العولمة المعاصرة. وإذا أردنا تبسيط الحديث باللغة الصحفية العادية البعيدة عن اللغة المتخصصة، نقول: إنّ عالمنا العربي ما هو إلّا مستهلك نهم فقط؛ لما ينتجه العالم الآخر من تكنولوجيا متطوّرة.
غير أنّ هذا لم يمنع باحثاً عربياً مهمّاً مثل إبراهيم غرايبة من الاشتغال منذ عقدين من الزمن بمسألة التطوّر التكنولوجي وشبكة الإنترنت بالتحديد، حتى أصبح أحد أهمّ مراقبي ومحلّلي أدوارها السياسية والاجتماعية، وانعكاساتها على الوطن العربي أفراداً ومؤسسات وحكومات.
في أحدث الإصدارات العربية حول هذا الموضوع الشائك والحسّاس، انقطع غرايبة خلال فترة الحجر الصحي بسبب وباء كورونا في مكتبته في العاصمة الأردنية عمّان، ليخرج لنا من عزلته بكتابه الجديد “من الهرمية إلى الشبكية: وجهة الدول والمجتمعات في عصر اقتصاد المعرفة”الذي كان يُعدّ له منذ زمن طويل، ليقدّم للقارئ العربي كتاباً من أشمل وأجمل الكتب التي تناولت موضوع التطوّر التكنولوجي وشبكة الإنترنت في حقبة العولمة المعاصرة، ويحلل آثارها على المجتمعات العربية والعالمية.
يتكوّن الكتاب من 420 صفحة موزّعة على 6 فصول، معتمداً على مجموعة من الدراسات العالمية الرصينة والعميقة بمختلف حقول المعرفة، تبدأ بموجز في تاريخ التقدّم الإنساني، وتتبع موجات التطوّر البشري والإنساني من الزراعي وتطوّر طرق التجارة في العالم القديم من طريق الحرير وإيلاف قريش، إلى الصناعي والثورة الصناعية في أوروبا وتطوّر المدن في القرن الثامن عشر، واستخدام الأرقام العربية في أنظمة المحاسبة العالمية بداية من القرن الثالث عشر الميلادي وصولاً إلى الموجة الثالثة والرابعة المتمثلة بالحوسبة أو الشبكية، حيث ظهرت مفاهيم ومقاربات جديدة مثل إنترنت الأشياء، والاتصالية الجديدة، والبيانات الضخمة، والتعلم العميق، والذكاء الاصطناعي، والواقع الافتراضي، والسحابة المعلوماتية…، وغيرها من المفاهيم التي أفرزتها المنظومة المعرفية المنتجة لهذه التكنولوجيا، والتي تقف اللغة العربية حتى الآن عاجزة عن استيعابها أو ترجمتها لأنّها تولدت من حضارة أخرى.
جوهر الكتاب تأكيده أنّ مفهوم “الشبكة” ألغى فكرة المركز والهرميّة اللذين استقرّت عليهما البشريّة طويلاً
لكنّ المفيد والجميل في عمل غرايبة أنه حاول جاهداً أن يوطّن هذه المفاهيم والمصطلحات، حتى وإن كان بكثير من العسف، حتى تطاوع القارئ العربي العادي من خلال ربطها باستخداماتها الكثيرة الموجودة بين أيدي المستهلكين العرب. خاصّة أنّ الشبكية قد تحوّلت إلى فلسفة في الحياة والإدارة والتعليم والسياسة والثقافة بديلاً للهرمية القائمة، وانعكست في مختلف القطاعات، خاصّة في الإعلام الذي أصبح تفاعلياً يتبادل فيه الأعضاء خدماتهم ويحصلون على مختلف احتياجاتهم.
ولا ينسى غرايبة أن يؤكّد الأدوار التي تلعبها سيرورة العولمة في تطوير الآليات التكنولوجية، وفي الوقت نفسه يشير إلى معضلة التكنولوجيا المتطوّرة المتمثلة بأنّ شبكة الإنترنت لم تصل إلى جميع الناس في العالم، الأمر الذي يزيد من الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويزيد من فجوة التكنولوجيا، ويحرم القطاعات المحرومة من الاستفادة القصوى من السوق المعرفية والمعلوماتية العملاقة. مع الإشارة إلى أنّ تأثيرات ثورة الإنترنت ما زالت في بدايتها.
في الوقت نفسه يلفت النظر إلى أنّ الإنترنت قد ساعد في نشر ما يُسمّى بالبعث الديني في العالم ونشاط التبشير الديني لأتباع الديانات والإيديولوجيات المختلفة حتى المتطرّفة منها، وانتشار ظاهرة موجة القوميات المتطرّفة والتعصّب وكراهية الأجانب والأحزاب الشعبوية.
ولم يفت غرايبة أن يشير إلى الجدل حول هيمنة التكنولوجيا والشبكة على المعنى والأشياء، ويقول إنّ ذلك أصبح أمراً واقعاً. فمفهوم “الشبكة” في الأساس “يلغي فكرة المركز والهرميّة اللذين استقرّت عليهما البشريّة طوال التاريخ المتاح لمعرفتنا”.
اقرأ أيضاً: الصراعات الشبكية وحروب ما بعد الحداثة
ولا أغالي إذا قلت إنّ هذه الفكرة الواضحة والبسيطة هي جوهر الكتاب؛ بل جوهر كلّ كتاب نُشر خلال العقدين الماضيين عن تطوّر شبكة الإنترنت وتأثيراتها المستقبلية، لأنّ فكرة تهاوي “المركز” تحمل الكثير من المضامين والمعاني التي تتجاوز مقصود هذا الكتاب.
يقف غرايبة على إشكالية اليقين والشك في فلسفة الشبكية، كما تتجلّى في الحالات والمناظرات الفلسفية العميقة والأفكار الكبرى في السياسة والاجتماع والاقتصاد والأديان والعبادات، والحياة اليومية التي تفرضها سطوة الإنترنت والشبكية على حياة الناس.
ومثال على ذلك مفهوم العالم “الافتراضي” الذي لم يعد يصلح للحياة في ظلّ الشبكية. فما الافتراضي، وما الواقعي اليوم، ونحن نراقب كيف يتهشّم ويتلاشى الحدّ الفاصل بين الواقعي والافتراضي؟ وربّما “لن يرى الجيل القادم أو يلاحظ فرقاً بين البيئتين، وفي واقع الحال لن يكون سوى بيئة واحدة، هي التواصل الدائم مع الشبكة”. وهنا تغدو أفلام الخيال العلمي عن الحياة في الواقع الافتراضي كسلسلة أفلام “ماتريكس” من مخلّفات تاريخ السينما.
اقرأ أيضاً: مأزق الخطاب الديني في عصر المعرفة والشبكية
وكلّ ذلك يؤدي إلى إدراك أنّ التقدّم الإنساني المتحصّل من خلال التطوّر التكنولوجي والشبكية لم يكن محصوراً فقط في الاكتشافات التقنية والتكنولوجية، ولكن في الفكر والثقافة والعلاقات والأعمال الناشئة عن هذه التكنولوجيا، فهي التي تتجلّى وتندمج فيها الحياة وتنساب بتسارع من الافتراضي لتندمج في الواقعي، من منصّات التواصل الاجتماعي فيسبوك وتوتير وغيرها الكثير، إلى الطيارات بدون طيار، إلى الذكاء الصناعي والروبوت، إلى الإعلام الحديث وتحوّله المتسارع نحو الاعتماد على شبكة الإنترنت، إلى العمل والطب عن بُعد، والتعليم عن بُعد الذي بتنا نتلمّس أهميته اليوم في ظلّ وباء فيروس كورونا.
اقرأ أيضاً: وعي السياق في جدل المعرفة.. أي مأزق يواجهنا؟
ومحصلة ذلك حقيقة “أنّ التقدّم والازدهار اليوم يقوم على وعي جمعي وشامل بمتطلبات تكنولوجيا المعنى والمعرفة، وملاحظة الفرص والتحديات واهتبالها في اللحظة المناسبة قبل فوات الأوان”. لكن في الوقت نفسه تحمل هذه الفرص صعوداً للفردية باستقلال عن الدولة والمجتمع والشركات، بل تحدياً لها من خلال “بروز الفرد الذي يعمل بنفسه ولنفسه، ويعلّم نفسه بنفسه، ويداوي نفسه بنفسه”.
وتكمن خطورة هذه الفردانية المعاصرة في بروز تحديات وأزمات جديدة غير مألوفة، وعلى رأسها العمليات الإرهابية المتمثلة بصعود اتجاهات إرهاب “الذئاب المنفردة” التي لا ترتبط بهرمية الجماعات والمنظمات الإرهابية بل بعلاقة مباشرة وخيطية بشبكة الإنترنت.
يلفت غرايبة النظر إلى أنّ الإنسان اليوم لم يعد يتميز بالتفكير! لأنّ الذكاء الصناعي والروبوت وبعض الحواسيب العملاقة تفوّقت على الذكاء البشري في الإحاطة ببعض أنواع المعرفة وتنظيمها وتحليلها.
وبذلك قد يفقد الإنسان مكانته كمرجع؛ لأنّ الأجهزة الرقمية تنفّذ، بتسارع كبير، المزيد من مهمّات الإنسان التي كان يتميز بها كمرجع للمعرفة. وبذلك يفقد خاصيّة احتكار توليد وإنتاج المعرفة، التي كان يتميز بها على مدار التاريخ البشري. وهذا خلق معضلة فلسفية حول سؤال الأخلاق والعدل والقيم والصواب والخطأ والثقة، بعيداً عن التنظيم الهرمي السلطوي والاجتماعي في ظلّ الشبكية، وما هي الثقافة الإنسانية التي يفترض أن تتشكّل حول اقتصاد المعرفة، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية التي فرضتها سيرورة التطوّر التكنولوجي؟
كلّ هذه الأسئلة مرتبطة بانتشار السيولة المعرفية وعدم اليقين والشواش والمخاطر والرعب، الذي يميز الحقبة المعاصرة من تحوّلات العولمة التكنولوجية. ولعلّ ذلك مرتبط بانتشار مفاهيم “ما بعد”، و”نهاية”، حيث يمكن أن نقع على الكثير من هذه الصياغات المشوشة مثل: “ما بعد الحداثة”، “ما بعد الإسلاموية”، “نهاية الدولة”، “نهاية التاريخ”، وغيرها الكثير، حتى غدت هذه المفاهيم صيحة جديدة في حقول المعرفة، لما لها من أثر نفسي محرّض على الانتباه والحذر، بل الرعب أحياناً. ولعلّ هذا ما يجذب الناس إليها.
في الختام؛ فإنّ غرايبة يصل إلى خلاصة المسألة -وهو محقٌّ في ذلك- “فالتحوّلات في الموارد والأعمال والتكنولوجيا التي تحملها سيرورة العولمة على صهوة شبكة الإنترنت تعمل بشكل عام لصالح الأكثر استعداداً وتنظيماً وموارد، لكنّ هؤلاء الذين لم يستفيدوا من فرصها المتاحة ولم يشاركوا فيها ليسوا بمنأى عن تحدياتها وخسائرها، فهي ليست فقط لا تعمل لصالحهم، لكنها تُفقدهم مواردهم وأعمالهم وأسلوب حياتهم، والنجاة من شرورها ليست اختياراً”.
– سبق أن نشرت هذه المراجعة في موقع حفريات .