بشار جرار خاص بمركز شُرُفات من واشنطن
بعد سيل من التغريدات الغاضبة المثيرة لغضب أكبر من خصومه، خص الرئيس الأميركي دونالد ترامب قناته المفضلة فوكس نيوز بمقابلة حصرية أجراها مع إحدى نجوم القناة، هاريس فوكنير.
هاريس وهي من أصول إفريقية، تعد برنامجا في وقت الذروة اسمه “آوت نبرد” وهو من البرامج الحوارية التي تكون فيه الغلبة للنساء: أربع محاورات مقابل رجل واحد، يجلسونه وسطهم في أشبه ما يكون حلبة مصارعة للآراء. “الرأي والرأي الآخر” ذلك الشعار الذي نحته الإعلامي الأردني المخضرم جميل عازر يكال هنا بواقع أربعة على واحد لضمان الغلبة للخط التحريري الذي تمثله القناة بأجندتها المعروفة اليمينية دائما والمحافظة غالبا.
في ذلك اللقاء كان دونالد “وان أون وان” مع هاريس. اللقاء كان في تكساس إحدى قلاعه الانتخابية وأول مكان خارج واشنطن يزوره بعد الأزمة المركبة لمقتل “جورج فلويد”. بدا ولأول مرة الحزن والشرود على الرئيس، خاصة في السؤال الأخطر الذي تناول تعليق خصمه جو بايدن على سؤال افتراضي ساخر لنجم الكوميديا السياسية تريفير نواه (نوح). تمكنت هاريس من انتزاع أول تعهد من ترامب بالاعتراف في هزيمته في حال صوتت الأمة الأميركية لصالح بايدن في نوفمبر المقبل، مسقطا تهكم بايدن عليه بأنه قد يضطر الجيش إلى إخراجه مخفورا من البيت الأبيض إن رفض نتائج الانتخابات.
كمتابع ذي خلفية إخبارية تلفزيونية، قرأت لغة الجسد للرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة أمام أيقونتها العسكرية “وست بوينت”. لم يشغلني ذلك بطبيعة الحال عن مفردات الخطاب وأفكاره. لكن الجو العام لصورة ترامب الذي يستأنف مهرجاناته الانتخابية بعد أيام، بعد جائحة كورونا، عززت قلقي كأحد ناخبيه على موقفه الانتخابي لأول مرة رغم توالي الأزمات عليه.
لقلة تصفيق الجمهور الذي خلا بسبب “الطاعون القادم من الصين” وهي أحدث تسميات كوفيد-١٩ على لسان ترامب، سارعت بعد فروغه من الخطاب إلى مقارنته بآخر خطاب يلقيه رئيس أمام حفل التخريج نفسه وإن كان خاليا بسبب الجائحة من أهم أركانه وهم أهالي الخريجين. كان ذلك عام ٢٠١٤ حيث آخر خطاب ألقاه باراك حسين أوباما أمام وست بوينت.
الفارق لم يكن كبيرا رغم الخلاف في ظاهر العناوين الرئيسية، سيما في مسائل: وحدة الأمة الأميركية، حياد الجيش، وصورة أميركا أمام العالم كقائدة للعالم الحر ومنارة قيم الخير والعدالة والإنسانية.
قد يهم الباحثين مراجعة هذين الخطابين مباشرة ليتضح الخيط الرابط بين مواقف سادة البيت الأبيض عندما يقفون في حضرة “العسكر”. العسكرية ما زالت هي الروح الطاغية على الأميركيين من حيث روح الفريق عندما يتعلق الأمر بمواجهة أميركا للعدو الخارجي أولا ومن ثم التعامل مع التحديات الداخلية التي تمس قيم أميركا العميقة وأهمها على الإطلاق الحرية والعدالة.
لعل أقوى رسالة وجهها ترامب وعلى نحو مفاجئ في ترابطه مع حقيقة ما قاله سلفه وخصمه أوباما، هو انسحاب أميركا من الخارج والانكفاء على الداخل لمواجهة الأولويات الملحة خاصة الاقتصادية الاجتماعية. وخلافا لما قد يبدو تناقضا فإن مرحلة الإعداد للخروج من الشرق الأوسط تحديدا قد بدأت عمليا منذ احتلال صدام للكويت في مطلع العشرية الأخيرة من القرن الماضي. ترامب قالها صراحة وعلى نحو غير مسبوق: سننهي انخراطنا في الحروب اللامتناهية لصراعات قديمة في أماكن لا يعرف الكثير منا عنها شيئا. الخطاب تضمن إشارات إلى أفغانستان والعراق وسورية. الانسحاب الأميركي متفق عليه على الأرجح وتحصيل حاصل، لكن الخلاف بين الجمهوريين والديموقراطيين هو في الكيف. المرحلة الراهنة هي ما بعد “الفوضى الخلاقة” التي ميزت رئاستي بوش الإبن وأوباما ولعل ميزة ترامب وعهدته الرئيسية تكمن في إعادة الإعمار ما دمرته آلة الحرب والإرهاب.
خطاب وست بوينت في نظري كان الخطاب قبل الأخير لترامب، خطابه الأكثر خطورة ودلالة سيكون في مؤتمر الحزب الجمهوري في جاكسونفيل بولاية فلوريدا الأميركية أحد معاقله الانتخابية وولايته بعد رحيله وأسرته من ولاية نيويورك لأسباب عدة من ضمنها مسائل ضرائبية.
ترامب يعد بعد ما رشح عن الاتفاق الأميركي العراقي خاصة مسألة عدم رغبة واشنطن بإقامة قواعد عسكرية في العراق، يعد لمفاجأة انتخابية كبرى: انسحاب كبير للقوات الأميركية من أفغانستان والعراق وسوريا أو اختراق كبير في صنع السلام والاستقرار كاختراق مع إيران أو تغيير لسلوك النظام في سوريا يضمن تباعدا سياسيا آمنا مع طهران أو انفتاحا ولو كان خفيا وصامتا على ترتيبات الشرق الأوسط الجديد بوجود “صفقة القرن” أو غيابها أو تعديلها (وهو الأرجح).
ختاما وبالعودة إلى خطابي ترامب وأوباما أمام وست بوينت، يبرز سؤال قد أفرد له مقالة قريبا هو عن العلاقة بين المؤسستين العسكرية والمدنية في صنع القرار الأميركي.