خالد الشرفات – خاص لمركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والارهاب
يُعرِّفْ السوسيولوجيين النظام الإجتماعي Social System بأنه مجموع الأنساق التي يتكون منها، بحيث يؤدي كل نظام الوظيفة المنوطة به من خلال أنساقه الفرعية Sub Systems الذي يؤدي بدوره إلى تحقيق الأهداف العامة للنظام الإجتماعي وجعله دائماً في حالة من الإتزان الإجتماعي Social equilibrium.
يبدو هذا التعريف سهل للوهلة الأولى، لكن الواقع يشي بالكثير من التعقيدات، والكثير من الالتواءات الذهنية وخصوصاً اذا ما علمنا أن كل الحديث عن الأبنية الإجتماعية وما تتشكل منه من انظمة، وانظمة فرعية، ووظائف، وادوار ما هو الا بناء ذهني فكري رسمه علماء الإجتماع الكلاسيكيين بداية من اوجست كونت، مروراً بهيربرت سبينسر، ثم إميل دوركهايم، فميرتون، وسوروكين، وليس انتهاءاً بأشهر منظري هذا الإتجاه؛ الأميركي تالكوت پارسونز parsons الذي صاغ احدث نموذج نظري للنسق الإجتماعي وأَحَبَ دائماً أن تكون وظائفه الضرورية جميعها في حالة من التوازن والإستقرار ليستطيع بذلك؛أيّ النسق ككل أداء الوظيفة المطلوبة منه التي هي بالنتيجة ادامة العمل بإتزان واستقرار.
لكن الأمر لا يتوقف عند تشييد وتصور هذا النسق بشكله الذهني المثالي، ولكنه يصبح اكثر واقعاً ملموساً عندما تجري الكثير من العمليات الإجتماعية داخل هذه الأنساق وتأثر بنا كنتائج واقعية ملموسة على أرض الواقع، نحسُّ ونتأثر بها.
بالطبع هذا يقودنا الى التفكير كيف السبيل الى استدامة التوازن والاستقرار، وكذلك ما هي السُبل الكفيلة بأن نحافظ على توازن النسق وحفظه؟
تدلنا اغلب الملاحظات والتجارب الإمبريقية على أن أهم ما يؤدي الى خلخلة البناء الإجتماعي هي الأحداث المتسارعة التي تحدث خلال عملية التغير الإجتماعي، لكن علينا الإنتباه أن عملية التغيّر الإجتماعي ذاتها بشكلها العام هي عملية بطيئة وتحتاج الى احقبة زمنية، لكن هناك ما يُسرّع من هذه العملية ويجعلها تسير بتواتر كبير؛ إذ يتفق معظم علماء الإجتماع، وحتى المشتغلين بالتاريخ أن اهم محرك للتغيّر الإجتماعي هي الأحداث الكبرى، وبالطبع من اهم هذه الأحداث : الحروب، والأوبئة، ففي ظل هاتين الظاهرتين وعلى اختلاف اشكالهما يزداد التسارع ويتواتر، وأثناء هذه التسارعات لا بد أن تحدث التوترات داخل الأبنية الإجتماعية والأنساق والانظمة المختلفة بداخلها، اذا ما علمنا أن هذه الهياكل المشيّدة ذهنياً ليست فارغة من الداخل، إذ تمتلئ هذه بالأفعال، والسلوكات، ويحكُم هذه الأفعال قواعد للسلوك،ووسائل للضبط الإجتماعي ومنها : القيم، والعادات، والتقاليد، ومنها اوعية ومصادر هذه السلوكات كالدين مثلاً، والسياسة، والفنون، والآيدولوجيا، وحتى العلوم.
إذاً؛ تتضح الصورة رويداً رويداً ويبدو أن النظام الإجتماعي محكوم بما يحدث بحياتنا الإجتماعية عموماً، وأن التغيرات، او التطورات المفاجئة هي التي تسبب الخلل وتهز الأبنية الإجتماعية بأنساقها المختلفة، وتربك طبيعة آداء الأنساق الفرعية لوظائفها، وبذلك تتشوش الأدوار الإجتماعية ومكانة الأفراد، وهذا من شأنه أن يؤدي الى التغير الإجتماعي، حصل هذا إبان الثورة الفرنسية، وحصل كذلك إبّان الثورة الإميركية، وبالطبع بعيد الثورة الصناعية، والحربين العالميتين الاولى والثانية، وما ُعرف بالكساد العظيم، وظل ذلك مستمراً خلال الحرب الباردة، وصولاً الى يومنا هذا وسيطرة ما يعرف الآن بظاهرة العولمة، وبذلك فإن التاريخ كله عبارة عن صيرورة من الأحداث اشبه بالموجات او السلاسل المترابطة.
لقد لعب ڤايروس كورونا لعبة الحروب تماما، او كان أشبه بثورة مفاجئة هزت الأبنية الإجتماعية واربكتها، إذ ادى إنتشار هذا الوباء الى ارباك وتشويش الأنظمة الإجتماعية المختلفة، بداية بالنظام الإجتماعي، والإقتصادي، والسياسي، والثقافي كذلك، وقد قلت سابقاً في مقال آخر أن كورونا ضرب كلا البناءين المادي والروحي للمجتمع، وعمل على خلخلة وتشويش عمل الكثير من الأنساق الاجتماعية، على مختلف القطاعات.
قلتُ بداية أن المجتمع عبارة عن مجموعة من الأنساق التي تعمل مجتمعة من أجل حفظ وإستمرارية النظام الكبير وهو المجتمع، وهذا ليس تعريفاً دالٌ على أن المجتمع دائماً بحالة من الإتزان والتكامل، فغالباً ما يهتز هذا النظام بأهتزاز انساقه الفرعية، وأعيد أن التغير السريع هو ما ينشر الفوضى والتشويش على عمل هذه الأنساق المطلوب منها دائما الإتزان والتكاملية والتعاضد العضوي Organic consolidate بين اجزاءها لاستمرار العمل، وهنا يمكننا تصوير المجتمع على انه أشبه بجسم إنسان دخل عليه ڤايروس معين، وعمل على خلخلة وإضطراب بوظائف الإجزاء، والأجهزة، كجهاز التنفس مثلا، او الجهاز الهضمي وما شابه، او بصورة أخرى جهاز الكمبيوتر الذي يتلقى الڤايروسات فتختلط ملفاته، والداتا المخزنة فيه، وقس على ذلك أي جهاز الكتروني يحصل به خلل معين.
وعودة الى كورونا والمجتمع، فقد بين پارسونز أن أي نسق إجتماعي لكي يستمر ويحافظ على توازنه لا بد أن يواجه أربعة متطلبات، او اربعة مشكلات وظيفية، وعليه أن يتقبلها ويسعى إلى حلها، وذلك لضمان التوازن العضوي والوظيفي ولدحر أي منغصات او مشكلات من الممكن أن تشوش عمل النظام واحيانا لربما فككته وانهكته وقضت عليه، اذا لم يتم إمتصاص ذلك الخلل او العدو والسيطرة عليه.
اول هذه المتطلبات هو الحفاظ على الطبيعة المميزة للنسق عن طريق عملية ” التنشئة الإجتماعية Socialisation” لأعضاء النسق.
ومن ثمَّ تكيّف النسق مع البيئة الإجتماعية والبيئة غير الإجتماعية التي يوجد بها هذا النسق، ويتم ذلك من خلال النشاط الإقتصادي الذي يعمل على تكيف المجتمع مع البيئة من ناحية،وعلى التحكم في هذه البيئة من خلال السلع والخدمات التي ينتجها النشاط الإقتصادي هذا من ناحية اخرى.
وكذلك هناك مشكلة “متابعة تحقيق اهداف النسق” ويتم ذلك برأي پارسونز عن طريق التنظيم السياسي لمصادر القوة المادية، وغير المادية وتعبئة أعضاء النسق وتقسيمهم بطريقة ينطوي فيها وعيهم بتلك الأهداف.
وأخيراً فإن عملية “تكامل النسق integration of social system وهي الطريقة التي تصبح فيها اهداف ذلك النسق، مثل الأمن القومي، او الثورة، او الإستقلال، او السلطة، والقوة، واضحة للأعضاء، وأن يتعاون الأعضاء في سبيل تحقيق تلك الأهداف والتصورات المشتركة. وهذا يلزم وجود نظم للتدرج الإجتماعي معترف بها،وأشكال للسلطة، التي ممكن أن تنبثق من شخص رئيس الدولة، او رجل الدين، او المجلس النيابي، او غيرها، بشرط وجود نظام (مؤسسة) تحدد معايير تلك السُلطة.
وهذا ما اطلقنا عليه بداية المقال بإتزان النسق، وهي العملية التي تحافظ على إتزان السلطة والمحافظة عليها، وعلى الرغم من أن جميع أجزاء النسق تكون بحركة مستمرة وتفاعلية الا انها لا تخرج عن مساراتها، وهنا المسارات هي الأدوار والوظائف المنوطة بالأنساق الفرعية داخل كل نظام وهذا ما يعرف”بالإتزان الإجتماعي الحيوي”.
وإذا تتبعنا هذه المشكلات او التحديات التي من الواجب أن يتكفل بها النسق الإجتماعي في مواجهة اي هزات او تغيرات مفاجئة نلاحظ أن هذا النسق لن يصمد دائماً فلا بُد من هزات تعتريه وذلك بفعل الإضطراب الذي سببه التغير السريع بتوجهات وسلوك وأفعال الناس الذين واجهوا تغيرات سريعة ومتواترة بفعل ڤايروس كورونا بحيث أثر ذلك في سلوكاتهم الإجتماعية، وحتى على المستوى الفردي، بحيث تأثر هؤولاء بالتزامات جديدة فرضت عليهم مثلاً ملازمة بيوتهم وعدم الخروج، وتعطل مصالحهم، وأعمالهم، سواءاً أكان ذلك على مستوى القطاع العام، او القطاع الخاص، بل ومنعوا من طقوسهم الدينية، في المساجد، والكنائس، والمعابد، وحتى من نشاطاتهم الثقافية والترويحية، وهذا كله مرتبط بعملية عدم التنقل والالتقاء وبالتالي التباعد الإجتماعي وعدم الإختلاط، وهذا لا شك زاد من توتر الأفراد، وعمل على عزلهم اجتماعياً، وهذا مالا يمكن أن يحتمله الناس لأكثر من يوم او يومين على ابعد حد، هذه الحالة اوجدت عند الأفراد ضجراً كبير، وبما أن البشر هم من يتفاعلون داخل الأبنية الإجتماعية، ويقومون بالأفعال والسلوكات، ويؤدون الطقوس والنشاطات، فإن هذه الأبنية لاشك عانت كثير جراء إنتشار هذا الڤايروس، وصارت الإنساق بحاجة الى اعادة تمركز لإمتصاص التأثير المباشر والقوي الذي احدثه هذا الڤايروس.
وهذا يقاس على معظم الأبنية، سواءا الإقتصادية، او السياسية، او الثقافية..، وكل هذا من شأنه إحداث خلخلة إجتماعية عامة قد تحتاج الى عدة شهور، وربما امتد الأمر الى بضع سنين لتستعيد الأنساق عافيتها ومواصلة عملها جراء العبث الذي أحدثه الڤايروس فيها.