خاص لمركز شرفات من واشنطن – بشار جرار
لست وحدي الذي واجهه كثيرون من العرب الأميركيين بأسئلة محرجة وأحيانا جارحة جراء دعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب. المسألة بدأت مع ظهور نجمه في الحملات الانتخابية الرئاسية، وقد أخذ عليه حتى بعض مؤيديه ما ظنوه مجرد فلتات لسان، ليتضح أنها رؤية وسياسة يؤمن بها ترامب دون حرج أو تردد.
الرجل خلافا لكل من سبقه في البيت الأبيض ليس سياسيا بالمعنى التقليدي، وهو ليس كما يظن البعض “ما في قلبه على لسانه”. فصانع الصفقات قالها مرارا بأنه لاعب “بوكر” يحسن ضم أوراقه إلى صدره فلا يراها سواه. هكذا أشار مؤخرا عند حديثه عن الحرب القائمة مع التنين الصيني.
التزاما بفكرة المقاربة بين نمط التفكير السياسي والألعاب المفضلة لدى القادة، كانت مقارنة ترامب بين الشطرنج والبوكر متباهيا بأنه يتميز على لاعبي الشطرنج في السياسة بأنه لاعب بوكر. بطبيعة الحال في ثقافة المشرق تحمل هذه اللعبة صفات غير حميدة منها وصم لاعبها بالمقامرة والخداع في حسن إخفاء نواياه. لكن ترامب أثبت قبل سنين من دخوله عالم السياسة بأنه صاحب رؤية لا مجرد مقامر يقتنص فرصة. أذكر هنا تصريحاته الخاصة بالعراق ونفط الشرق الأوسط والموقف من تحويل القوات المسلحة لبلاده إلى دور شرطي أو شركة حماية لنظام قد لا يحتمل الصمود أسبوعين في حال رفع الغطاء عنه.
ترامب ورغم اعتزازه بدور بلاده عالميا وخاصة في قيادة العالم الحر، لم يتردد بالبر بقسمه الدستوري وهو ككل قسم عسكري ومدني في العالم يتطلب وحدة الولاء للبلاد واعتبارها دائما أولا. هكذا تعني الوطنية وغير ذلك لن تكون في جوهرها بعيدة عن الخيانة أو الفساد أو الضعف اللذين لا يختلفان في مآلهما عن نتائج الخيانة ذاتها. انظر فيما انتهت إليه كثير من معارك الشرق الأوسط العسكرية والتنموية! وهذه بداية ردي كلما واجهني أحد ضحايا ترامب “المستفز”.
ترامب وكغيره من قادة العالم الذين أحدثوا تغييرا حقيقيا وجذريا هم بالضرورة مستفزين.. هذا شرف في نظري عظيم. وحده التاريخ الذي سيظهر نبل نواياهم وحسن اختياراتهم. انظر مرة أخرى إلى تاريخ الشرق الأوسط بما فيه من أديان وأعراق ستجد حتى في الكتب المقدسة علامات فارقة لقرارات مصيرية اتخذها ملوك وأنبياء عظام.
هنا أتوقف عند سيل الشتائم والإدانات التي لاحقت ترامب على ماضيه. أخوتي من التيار المحافظ وبخاصة اليمين المسيحي من الإيفانجيليكالز أو التبشيريين، كانوا يتساءلون عن المسوغ الديني أو الأخلاقي لمؤيدي ترامب بكل ماضيه النسائي (المثير للجدل أو لحفيظة البعض من ملائكة الأنس). ولأولئك تبرز صورة النبي داوود الذي اقترف كبائر اشتهاء زوجة أحد جنده الأبطال والتغرير به وإرساله بعيدا عن منزله ليلقى حتفه في مهمة عسكرية من أجل (الله والوطن). هذا العاصي لم يقنط من رحمة الله وتاب وصار خالدا في مناجاته الربانية المعروفة بمزامير داوود. حتى صار الناس يعزون بمثاله الشرفاء من المصلحين المحبطين بالقول: على من تقرأ مزاميرك يا داود؟!
بطبيعة الحال، تلك مقارنة أقرب ما تكون إلى المداعبة لا المقابلة ولا حتى التقريبية، لكنها تطيب لترامب ومؤيديه في اليمين المحافظ (المسيحي واليهودي) وليس آخر ثمار “توبته وصلاحه” قراره قبل أيام بإعادة فتح دور العبادة للمؤمنين كافة في كنسهم وكنائسهم ومساجدهم ومعابدهم رغم أنف كورونا والمتعذرين بالفيروس الصيني من غلاة الحزب الديموقراطي والليبراليين في أميركا.
أما ما يخص مصادر العداء لترامب خارج أميركا فتعددت الأسباب لكن الجوهر واحد، وهو الامتعاض من بر ترامب بقسمه الرئاسي والانتخابي في أن تكون بلاده أولا وألا يشاطر هذا الولاء لأميركا أي اعتبار آخر مهما كان.
وتلك الحقيقة المغيبة عن الجيش العرمرم من المسؤولين والمنظرين والمحللين، وخاصة في الشرق الأوسط، فالرجل جاد في عزمه على الانسحاب من الشرق الأوسط بعد تبديد ثماني تريليونات دولار على مشاريع خاسرة لم تجن على مدى نصف قرن سوى العداء والتحالف غير العادل في منظور الحقوق والواجبات.
وخلافا لما سبقه من رؤساء، فإن دور الصحافة المعادي في مجمله لترامب كان غير مسبوق لأسباب لا تتعلق فقط في جدلية وحدية مواقف الرئيس ترامب وشخصيته، وإنما أيضا لسحبه البساط من تحت أقدام الصحافة التقليدية عبر توظيفه لقدراته النجومية في التواصل والتأثير. لم يكن نجاحه مقتصرا على رياديته في توظيف منصات التواصل الاجتماعي وبخاصة تويتر وإنما في اشتباكه المدروس لإشغال وسائل الأعلام به. باستثناء القليل من القادة العالميين، لم يحسن في نظري أحد كترامب في “استفزاز” مختلف وسائل الإعلام وعلى تباين جمهورها في التعامل مع ما يصدر عنه من قول أو فعل أو حركة أو حتى تعبير باليدين أو الوجه. هو انطباعيّ بكل معنى الكلمة كونه لا يتركك دون انطباع سلبا أكان أم إيجابا، لهذا أسميه بالصديق المستفز.
والأمل أن ينظر المستفزون بفتح الفاء لا الفاه في نتائج ما يفعله الرجل لا ما يقوله بالضرورة.
ففي حال اتفاقنا على أن بلادي أولا وأن هدفي كقائد وحتى أصغر موظف أن أراعي مصالح بلادي، بإمكاننا التوافق على لغة مشتركة قوامها التعرف بصدق على المصالح الحقيقية للجانبين بما يحقق أكبر المنافع ويدفع بأكثر قدر من الأضرار بعيدا عن إيذاء من نخدم ومن نحب إلى حد الفداء.
الرجل لا يريد لبلاده دور الشرطي. لا يسعى حتى إلى دور القاضي ولا المنظّر ولا المخلّص. خلافا لمن سبقوه لا يفرض من نفسه قيما على مصالح الشعوب ولا على نظم الدول. يريد “أميركا عظيمة كما كانت دائما” لا عظمة تبدد قوتها وقوتها على الخارج، بل المضي قدما في بناء منارة العالم الجديد العالم الحر الذي هاجر بناته الأوائل هربا من ظلم الإقطاع والفساد والإرهاب الديني والعرقي والطبقي في أوروبا. لكن في المقابل لا يريد الانسحاب من ساحة في أي مكان وبخاصة الشرق الأوسط لصالح عدو قديم أو جديد. لا يريد السماح بانسحاب يحدث “فوضى خلاقة” كأسلافه ولا فراغا تدميريا تنساب إليه القوى الطامعة الطامحة لإشعال حروب تضطر بلاده لاحقا وربما “بعد خراب البصرة” إلى التدخل.
لهذا لا يساورني أدنى شك بأن نجاح ترامب في محاربة الاتجار بالبشر والمخدرات والجريمة المنظمة والانحلال والإرهاب والهجرة غير القانونية وطغيان المؤسسات التقليدية لما يعرف بالدولة العميقة لن يتحقق إلا جنبا إلى جنب الانسحاب الآمن من الشرق الأوسط في انفكاك سلس يتطلب حل عقد المنطقة الأمنية وقضاياها المزمنة.
ترامب يعلم أن في الشرق الأوسط إسرائيل والنفط ومحاربة الشيوعية سابقا والإرهاب الإسلامي لاحقا. لكن في عالم ما بعد كورونا هناك حرب أكثر إلحاحا شرقا، وهي كسب الصين أو ترويضها أو تحطيمها بالتشظي عبر بوابة تايوان أو ووهان.
وإن كانت “الميغا ديل” أم الصفقات قد فشلت بانسحابه من اتفاق إيران النووي، فإن بديله ليس كما يظن البعض “صفقة القرن” والسلام الفلسطيني الإسرائيلي أو العربي والإسلامي الإسرائيلي. ترامب يريد إعادة إعمار ما دمره “الربيع العربي” بأشبه ما يكون مشروع مارشال جديد يربح فيه الطرفان بما يعرف بصيغة نربح معا عوضا عن المحصلة الصفرية لخسارة الجميع.
إن طبيعة الثورة الاتصالية والمعرفية وخطوط انتاج الطاقة ونقلها وتوظيفها وتسويقها لا تقيم وزنا للحدود بالمعنى التقليدي، لكنها في نظر ترامب، تعلمت من دروس الماضي بأن الحدود لا بد أن تحترم فيما يخص تطبيق القانون وحماية خصوصية المجتمعات ومصالح الدول.
عاجلا أم آجلا، سينجح ترامب في “استفزاز” الناخبين في دول كثيرة بانتخاب وجوه حقيقية بلا مكياج ولا جراحة ترقيعية أو تجميلية. الأحداث الجسام التي مرت بها المنطقة أسقطت القناع عن كثير من الأوهام والقناعات المشوهة والأفكار المغلوطة. المنطقة كإقليم وكدول بحاجة إلى إعادة بناء من الداخل ومن الأسفل في تطبيق واقعي لأسس البناء المستدام. البداية دائما في القواعد والنهايات تحددها الزوايا والقوائم حينها فقط نصل إلى سقوف تطلعات قابلة للتحقيق وفقا للإمكانات لا للتمنيات.
تخيل معي لو علا صوت من يفكر كترامب فلسطينيا وإسرائيليا، كرديا وتركيا، خليجيا وإيرانيا، أمازيغيا وعربيا، تخيل كيف سيكون الحال؟ نحن أمام مفترق طرق: إما استمرار العمل بطروحات وأدوات الماضي، وإما التفكير والحديث والعمل بصدق، فهناك دائما بديل عن هدم البناء القديم وكذلك طرق هدمه! وتلك مسائل جنى منها صديقنا المستفز المليارات قبل وصوله إلى البيت الأبيض الذي لم يجن منه سنتا واحدا عندما اتخذ قرارا غير مسبوق عالميا وهو التبرع براتبه كأعلى “موظف مسؤول” في الدولة لصالح مشاريع تطوعية وخيرية. طبعا دون أن ننسى المثل الأمريكي القائل: لا تنتظر من أحد أن يقدم لك عشاء مجانيا سوى والديك! استعدوا لأربع سنوات أخرى، فصديقنا المستفز باق في مكتبه البيضاوي لا بل وسيصبح أكثر “استفزازا”!