لن ينتهي الاهتمام بدراسة وتحليل ظاهرة التحاق النساء في العالم الغربي بتنظيم داعش الإرهابي، والأسباب التي دفعتهنّ إلى ذلك؛ لأنّه ما يزال موضوعاً يستحق الدراسة والتحليل العلمي.
تسعى الدراسة إلى تقديم رؤية كليّة وتحليلاً لتشكل ظاهرة جهادية النساء والدوافع المفسرة لها
لا يمكن الحديث عن المرأة في السياسة المعاصرة دون العودة إلى الأصل، والعودُ الأبدي إلى البدايات، كما يقول عالم الأديان “مارسيا إلياد”؛ بدايات نشوء الكون والزمن الذي سيطرت فيه المرأة الآلهة والمدبرة للحياة على طول وعرض الحضارات القديمة (الرافدينية، المصرية، والهندية، والإغريقية) حتى العصر الثامن قبل الميلاد؛ حيث حصل التحوّل الذكوري وفقدت المرأة مكانتها في الحياة وتنظيم السياسة، وعبر سلسلة طويلة من الممارسات، تم الحط من شأنها وبالتدريج تم تحويلها إلى مجرد رمز للرذيلة والإغواء والضعف، وبالتالي تحويلها إلى تابع للرجل وفي حاجة إلى حمايته الدائمة لأهدافه الخاصة، وبشروطه المسبقة، ومن هناك أجبرت المرأة على لزوم البيت للرجل، بهدفٍ رئيس هو تربية الأطفال.
ومن ضمن الدراسات العلميّة الحديثة الرصينة، التي اعتمدت “تكامل مناهج البحث” بين علم النفس والتحليل النفسي وعلم الاجتماع الأنثروبولوجي، نقف على كتاب “جهاد النساء: لماذا اخترنَ داعش؟”؛ الذي صدر عن دار الساقي باللغة العربية، مترجماً عن الفرنسية، عام 2019، للمفكر والمحلل النفسي التونسي، فتحي بن سلامة، أستاذ علم النفس المرضي في جامعة باريس-ديدرو، بالاشتراك مع المُنظر الإيراني، فرهاد خسروخاور، مدير الدراسات في معهد الدراسات الاجتماعية في باريس، الذي تركز أعماله حول الإسلام في أوروبا وفي الشرق الأوسط، وبوجه خاص في إيران.
قد يبدو العنوان مضللاً بعض الشيء، خاصة إذا علمنا أنّ الدراسة تركز أساساً على الفتيات الفرنسيات، أو لنقل التجربة الفرنسية تحديداً، لا ظاهرة جهاد النساء في داعش، أو حتى الأوروبيات في داعش بشكلٍ عام؛ لذلك فهو أقرب ما يكون إلى دراسة الحالة، وهي ظاهرة الفتيات الجهاديات الفرنسيات، ومن هنا تمكن الاستفادة منها لتحليل الظاهرة بشكلها العالمي وليس الفرنسي أو الأوروبي فقط.
عموماً؛ تسعى الدراسة إلى تقديم رؤية كليّة وتحليلاً لتشكل ظاهرة جهاديةالنساء والدوافع المفسرة لها وبواعث جاذبيتها ذات الطبيعة النفسية والاجتماعية؛ حيث ترتكز على ما يقارب (60) حالة من مصادر مختلفة تشمل: حالات من التحليل النفسي، وحالات من حقل العلوم الاجتماعية، وإفادات حية من الفتيات مباشرة، وتحقيقات معمقة أشرف عليها مختصون في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، وأخرى أجراها صحفيون؛ كتلك التي قام بها الصحفي “ديفيد تومسون”، ونشرت في كتابه “العائدون”، عام 2016، باللغة الفرنسية، والذي يعدّ من المراجع الرئيسة التي اعتمدها الكتاب.
نذهب مباشرة إلى حيث انتهى الكتاب، عبر سؤاله المركزي: ما السبيل إلى فهم اختيار حوالي (500) فتاة أوروبية اللحاق بتنظيم إرهابي مثل داعش؟ وما هي دوافع وتطلعات هؤلاء الشابات والفتيات الصغار أحياناً؟
حجم الظاهرة في لغة الأرقام
دون الإغراق في لغة الأرقام والبيانات والإحصائيات المتباينة لأعداد مقاتلي داعش، وعدد المقاتلين الأوروبيين، رجالاً ونساء، خاصة في فترة تضخم تنظيم داعش، بين عامَي 2014-2015، يشير الكتاب إلى أنّ عدد المقاتلين من أصل أوروبي بلغ، عام 2015، ما يقارب (5000) مقاتل، منهم (500) من النساء، من أصل العدد الإجمالي لمقاتلي تنظيم داعش البالغ (30000) مقاتل.
في كانون الأول 2015 بلغ عدد الجهاديات الفرنسيات 220 فتاة من أصل 600 فرنسي يشاركون في تنظيم داعش
وفي كانون الأول (ديسمبر) 2015؛ بلغ عدد الجهاديات الفرنسيات (220) فتاة، من أصل (600) فرنسي، يشاركون في تنظيم داعش؛ أي إنّه من كلّ ثلاثة جهاديين فرنسين توجد فتاة، وهؤلاء ثلثهنّ اعتنقن الإسلام، في مقابل رجل واحد من كلّ خمسة في الفترة نفسها.
وفي ملاحظة مهمة جداً؛ تنسف الادعاء الانطباعي المنتشر في وسائل الإعلام العربية، الذي يزعم أنّ المتطرفين في أوروبا، وفرنسا خاصة، يأتون من الطبقات الفقيرة والمُعدمة في الضواحي، جاء الكتاب ليؤكد أنّ غالبية النساء الفرنسيات ينحدرن من الطبقات الوسطى الصغيرة، والطبقات الوسطى، ولا ينتمين إلى سكان الضواحي، وهذا يشمل اللواتي اعتنقن الإسلام على وجه الخصوص، خلافاً لحال قسم كبير من الشباب المنخرطين في داعش، الذين ينتمي “ما يقارب ثلثهم أو ثلاثة أرباعهم إلى الضواحي”، وتنحدر أولئك النساء من خلفيات متنوعة؛ من أسر مسيحية، ويهودية (حالات نادرة)، وبوذية، أو لا إدرية، أو ملحدة، ويفوق عدد الفتيات القاصرات عدد الفتيان القاصرين.
وفي مجال محاكمة هؤلاء أمام المحاكم الفرنسية؛ تشير الإحصائيات إلى أنّه تمّت محاكمة 22 فتاة فقط، مقابل 230 رجلاً، واليوم هناك نحو 200 جهادي فرنسيعادوا من سوريا، وتمكّنت الأجهزة الاستخبارية الفرنسية من تحديد هوياتهم، وفي فرنسا، كما في أوروبا، لم تعد المشكلة في التحاق الجهاديين بتنظيم داعش؛ بل أصبحت تتمثل بعودة هؤلاء المقاتلين إلى بلادهم.
لماذا تذهب النساء إلى داعش؟
يحاجج الكتاب؛ بأنّ طموح الانضمام إلى داعش جاء، إما تلبية لرؤية رومانسية عن الحبّ والجنوح إلى الغرائبية والابتعاد، والتطلع إلى ما يجعل منهن نساءً، وهو ما تبلور في الزواج والإنجاب المبكر، وإما رغبة في الالتزام الإنساني أمام “الفظائع التي ارتكبها الأسد ضدّ شعبه، والتي تلقفتها حملة دعائية نادت بأنّ الأخوة في الدين (السّنّة)، هم في أمسّ الحاجة إلى النجدة من سلطة الأسد (العلوية) الهرطقية والشريرة، فبوصفه علوياً ينتمي إلى طائفة كافرة، فقد دانته داعش”.
في أوروبا لم تعد المشكلة في التحاق الجهاديين بتنظيم داعش بل أصبحت تتمثل بعودة هؤلاء المقاتلين إلى بلادهم
لكنّ النقطة المحورية لهذه الفئة من الفتيات، كانت صورة “الرجل المثالي”، التي أُضفي عليها طابعاً مثالياً ورجولياً؛ وهو من يقف في وجهه الموت بقسمات رجولية وجدّية وصدوقة.
وقد كان من شأن هذه الصفات الثلاثة (الرجولة والجدية والصدق)، التي وردت في العديد من الإفادات التي أخذت لعدد من الفتيات، أن تعطي معنى لـ(الزوج المثالي) “القادر على إصلاح صورة الذكورة، مقارنة بالشبان ممن كانت الفتيات يلتقين بهم في حياتهم اليومية، ويرون فيهم رجالاً غير ناضجين وعاجزين عن الالتزام”.
ردّ الفعل على الحداثة
عبر مقاربتين اجتماعية ونفسية تحليلية؛ يقدم الكتاب، بأسلوب سهل وممتع، ولغة مُكثّفة، معززة بالشهادات والاعترافات، تحليلات مستندة إلى معايير موضوعية؛ كالسنّ والطبقة الاجتماعية ومكان الإقامة والانتماء إلى ثقافة إسلامية، ويُسلّط الضوء على البواعث الذاتية وراء التحاق الفتيات بتنظيم داعش الإرهابي، الذي “ينكر عليهن مكتسبات تحرر المرأة، لكنّه في المقابل يمنحهن خلاصاً على هيئة شعورٍ بالوجود؛ كزوجة لمقاتل منذورٍ للموت، أو أمٍّ لأشبال منذورين للمعركة، وهذه العودة إلى الوراء إحدى أهم العلامات الفارقة لحداثتنا جهة أنّنا أمام إبراز لسردية مناهضة للسردية الكبرى للحداثة”.
يؤكّد الكتاب أنّ توجّه أو رغبة الفتيات في الالتحاق بتنظيم داعش يشكل مفارقة ولغزاً يستدعي التأمل
يؤكّد الكتاب أنّ توجّه، أو رغبة، الفتيات في الالتحاق بتنظيم داعش، يشكل مفارقة ولغزاً يستدعي التأمل، جهة أنّ هذه الظاهرة غير مألوفة، بالتالي؛ لا وجود لتوصيف وحيد لها؛ فحالات الفتيات اللواتي التحقن بتنظيم داعش تتراوح ما بين السوي والمرضي، من دون أن يعني ذلك أنّ الحالات المرضية صريحة في معظمها؛ إذ إنّ كثيراً منهنّ عانى صدمات متنوعة من بينها أفعال جنسية عنيفة، ومنهنّ من شكلت أسرهنّ، وحوادث أخرى، عائقاً أمام مسعاهنّ الوجودي في الحياة، وعدد كبير منهنّ ينتمين إلى الطبقة الوسطى الصغيرة، والبعض الآخر إلى الطبقة الوسطى العليا، وعدد قليل فقط يعيش في الضواحي.
اقرأ أيضاً: النسائية الجهادية.. هل هي حقاً ظاهرة عابرة؟
هذا يعني أنّ هناك تفسيرات مختلفة ومتشابكة للظاهرة، منها أنّ معظم الفتيات اللواتي تحركن من أجل تنظيم داعش، كنّ يبحثن عن شيء آخر، وأصبحن جهادياتعرضاً، دون أن يعني ذلك أنّ الأمر حدث مصادفة، وهنا كان عرض داعش الجهادي يقترح المنفذ وطوق النجاة، في ظلّ حالة الفوضى الاجتماعية التي كانت مسيطرة في حياة بعض هؤلاء الفتيات في حقبة الحداثة الراهنة؛ لذلك فنحن “أمام إبراز لسردية مناهضة للسردية الكبرى للحداثة، قوامها أنماط تقديس بدائية دينية مقفرة، ويوتوبيا فاسدة، نموذجها المثالي قمعياً، تتسم بمجتمع من العائدين من أصول أسطورية، وباختصار هو منبع للذة قوامها الحرب والألم وإنزال الألم بالآخرين، ثم الموت، ليس بغية الزوال، إنما للانتقال إلى حياة من المفترض أنها كاملة”.