تحديد المفاهيم وتعريفها؛ طريقة فكرية غرضها التوضيح، ويفترض أن تكون محايدة، يلجأ إليها الباحثون لشرح وإيصال معنى شيء مبهم، أو غير معروف، أو غير متفق عليه؛ عن طريق محاولة ربط الكلمات أو الرموز بالأشياء أو الأحداث، ربطاً موضوعياً، مبنياً على المشاهدة والخبرة والتجارب، ويكون عادة مبنياً من تصورات تحصل من خلال الحواس الخمس، ومن الذكريات والتخيلات ومن نتاج الفكر الخيالي التأمّلي، خاصة تلك التي كانت متوفرة لدى الباحث وقت إجراء البحث.
يصعب تحديد معنى مفهوم الإرهاب، وذلك لاختلاف تعريف الناس وفهمهم له، وعليه؛ فليس له تعريف محدَّد، أو فهم موحّد؛ لذلك يلتبس مفهومه بمنطوقه.
غير أنّ تعقّد الظواهر والتباسها، لا يعني النكوص عن دراستها وتحليلها؛ بل تحطيمها بمعاول البحث والدراسة، والسهر والإصرار، لاكتشاف كنهها ومآلاتها؛ وإلا تعطلت الحياة.
تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة النظر في مفهوم الإرهاب التقليدي وتعريفه لتجريم ظواهر خطيرة جداً
وقد أثار مفهوم الإرهاب جدلاً متشعباً وواسع النطاق (معولم)، سواء من حيث تحديد المفهوم، أو الخلفيات، أو تأثيره في الدولة، أو من حيث الأسباب، لكنّ المميز هو أنّ الجدل اتخذ طابعاً سياسياً، بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001؛ لذلك صرّح الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن، قائلاً: “إنّ الحرب على الإرهاب: نضال من أجل الحضارة، وحرب سترسم مسار القرن الحادي والعشرين، وهي أكبر من الصراعالعسكريّ، وستحدّد مصير الملايين عبر العالم”.
لقد فتحت تلك الهجمات الباب على مصراعيه لإعادة فتح هذا الملف؛ الذي بقي لفترة من الزمن وكأنه يخصّ فئة أو منطقة جغرافية بعينها، إضافة إلى أنّها هزّت واقع النظام العالميّ، وزعزعت عدداً من المبادئ المستقرة لما يسمى “بالنظام الويستفالي” للدول، كذلك غيّرت وبدّلت وخلّفت كثيراً من المفاهيم والمسلّمات، السياسية والثقافية، وسط تصادم عوالم القوة والقانون والإرهاب والحوار.
اقرأ أيضاً: لماذا لا توجد برامج لإعادة تأهيل الإرهابيين في أمريكا؟
وعند النظر في التعريفات المختلفة للإرهاب؛ يبدو التعريف الفرنسي مميزاً وفريداً؛ إذ يعرّف الإرهاب بأنه: “عمل مستهجن، يتم ارتكابه على إقليم دولة أخرى، بوساطة أجنبي، ضدّ شخص لا يحمل جنسية الفاعل نفسه، بهدف ممارسة الضغط في نزاع لا يعدّ ذا طبيعة داخلية”.
إنّ التنوّع الكبير في تعاريف الإرهاب دفع ببعض الباحثين في القسم الفيدرالي بمكتبة الكونغرس الأمريكي، مثلاً، إلى الإشارة إلى أنّ هذا التنوّع يبدو غير ملائم؛ لذلك فإنّ كثيراً من الباحثين يهملون تعريف هذا المصطلح أو المفهوم، الذي تبدو سلبياته وإشكالياته فيما يأتي:
أ ـ المفهوم غامض وغير محدّد.
ب ـ التباين والاضطراب في تحديد المفهوم.
ج ـ تعدّد تعريفات المفهوم وتضاربها.
د ـ نسبية التعريفات الموجودة ما يحتمل وجود بعض التباين والاختلاف بينها.
هـ ـ عدم وفاء اللفظ للمعاني الداخلة فيه.
تعمل ضغوطات الإرهاب بفاعلية كبيرة، تتجاوز ردّ الفعل الآليّ التجزيئي، إلى ردّ فعل كلّي تجاه كلّ سياسات “مكافحة الإرهاب“، التي اتخذت شكلاً عولمياً، وبات بعض الغربيّين يرون أنّ شبكات الإرهابيين تشكّل اليوم نوعاً جديداً من العولمة العسكرية –الأمنية.
اقرأ أيضاً: تحولات في جغرافيا الإرهاب
لم يُدرَس الإرهاب على أنّه حقل مستقلّ للدراسة (Discipline)، ولم يَحظ باهتمام الباحثين، سواء في الغرب أو في العالم الإسلامي، إلا بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) العام 2001، أما قبل ذلك؛ فقد كانت هناك محاولات متفرقة، خاصة في الدراسات الأمنية الحكومية، لكنّها لم تكن حقلاً معرفياً (إبستمولوجيا) مستقلاً، وقد كان هذا الأمر مبعث شكوى لدى بعض الباحثين في هذا الحقل.
في ظلّ وجود الكثير من الأدبيات السطحية المتحيزة بقيت مشكلة تعريف مفهوم الإرهاب ماثلة ومستمرة
وبعد هجمات 11 أيلول، برزت مفاهيم جديدة، زادت صعوبة الدراسة في هذا الحقل؛ حيث تغيرت بعض المُسلَّمات والمفاهيم؛ مثل المفهوم الذي استُخدم للمرة الأولى في التاريخ، لوصف مقاتلي القاعدة وطالبان، وجاء على لسان جورج بوش الابن، وهو: “المقاتلون غير الشرعيين”، وذلك كي يتهرّب من اعتقالهم خارج أمريكا، في خليج غوانتنامو، وقد أكّد بوش الابن، أيضاً، في مذكرة سرّية، أنّ “أمريكا، بعد أحداث 11 سبتمبر لم تعد هي التي تحدّد السياسة العالمية؛ بل الإرهابيون”!
وإلى جانب صعوبة البحث، وفي ظلّ وجود الكثير من الأدبيات السطحية المتحيزة في دراسة الظاهرة بشكل عام، بقيت مشكلة تعريف المفهوم ماثلة ومستمرة؛ إذ لا يوجد، حتى الآن، تعريف واحد للإرهاب يكتسب القبول العالمي، سواء لدى الأطراف الدولية، أو المؤسسات، أو الأفراد؛ لذلك استمرّ الجدل والخلاف لأسباب متعددة؛ دينية وسياسية، وأيديولوجية، وقانونية، وكذلك تاريخية مفاهيمية؛ فاستخدام المفهوم تغيّر وتبدّل عبر الزمن؛ حيث إنّ إرهاب “فترة الرعب” إبان الثورة الفرنسية (1793)، يختلف -شكلاً ومضموناً- عن اتجاهات الإرهاب المعاصر، والتباسه مع مفاهيم فضفاضة أخرى؛ مثل الذئاب المنفردة، و”جرائم الكراهية” بشكلها المعاصر.
اقرأ أيضاً: محطات الإرهاب كما توثقها “موسوعة العذاب”… إلى داعش والخميني
ويجادل باحثون مهمّون في هذه الظاهرة، مثل المؤرخ والسياسي الأمريكي ولتر لاكوير (Walter Laqueur)، بأنّه مهما كان تعريف مفهوم الإرهاب فإنه سيُرفض من بعضهم لأسباب أيدولوجية، وبأنّ الصفة الرئيسة للإرهاب؛ هي اشتماله على العنف (Violence)، والتهديد باستخدام هذا العنف.
تعقّد الظواهر والتباسها، لا يعني النكوص عن دراستها وتحليلها بل تحطيمها بمعاول البحث والدراسة
كما يجمع معظم الباحثين، ومعظم التعريفات الرسمية للإرهاب على وجود ثلاثة معايير مشتركة في تعريف الإرهاب، تساهم في عملية التفريق، و(ربّما) إزالة اللّبس، هي:
(1) العنف واستخدامه: يرى ولتر لاكوير أنّ هذا المعيار هو الوحيد، بشكل عامّ، الذي يحظى بإجماع الباحثين.
(2) التأثير النفسي والخوف: لأنّ الهجمات الإرهابية تنفَّذ لهدف تعظيم هذا التأثير، وإطالة أمده قدر المستطاع، خاصة من خلال ضرب بعض الرموز الوطنية المهمة، سياسياً أو اقتصادياً، ولعلّ هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 ضدّ مركزالتجارة العالميّ والبنتاغون، كانت مثالاً حيّاً عن ذلك.
اقرأ أيضاً: الإرهابيون الخارجون.. إلى أين سيذهبُ هؤلاء؟!
(3) الأهداف السياسية: إنّ التكتيك السياسيّ (Political Tactic) لدى الإرهابيين، ببساطة، هو ما يميز الإرهاب عن بقية الجرائم والأفعال (الحرب التقليدية، وحرب العصابات، وجرائم الكراهية، …إلخ)، والفشل في استخدام هذا التكتيك يُعدّ، بالنسبة إلى الإرهابيين، أسوأ من موت الأبرياء، كالاستهداف المتعمد لغير المشاركين في المعارك.
مفاهيم تختلط بالإرهاب
بناءً على المعايير المذكورة أعلاه؛ تجدر الإشارة إلى أنّ الإرهاب يختلف عن مفاهيم أخرى، قد تبدو قريبة منه ومختلطة به، ومُلتبسة معه، حتى للمهتمين بالظاهرة وخبرائها، وأبرز هذه المفاهيم:
(1) الإرهاب وجرائم الكراهية (Hate Crimes): لا ترقى مهاجمة شخص بسبب كراهيّته، لأسباب تتعلق بقوميته ودينه، لفعل العمل الإرهابيّ؛ لأنّها لا تتضمن النية السياسية والنفسية التي تقف وراء العمل الإرهابي.
توجد وسائل كثيرة يمكن أن يستخدمها الفرد لتحقيق هدفه أهمها؛ الانتخابات والمسيرات والاحتجاجات السلمية لكنّ الإرهابيين لا يؤمنون بهذه الوسائل
ونشير هنا إلى الجدل المعاصر والمحتدم اليوم في أمريكا، حول هذه المسألة، خاصة بعد حادثة إطلاق النار في معبد “شجرة الحياة” اليهودي؛ إذ وصف المحقّقون الحادثة بأنّها “جريمة كراهية وليست إرهاباً!”، وقد وقعت الحادثة في مدينة بتسبيرغ-بنسلفانيا، يوم الأربعاء 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2018، وأدّت إلى وفاة 11 شخصاً وجرح آخرين وذلك على يد شخص متطرّف ومعادٍ للسامية واليهود والمهاجرين، يُدعى روبرت باورز.
(2) الإرهاب والصراعات العسكرية المسلحة: قد تتشابه في الأهداف، وذلك حينما يكون الهدف هو إحداث “الصدمة” و”الرعب” عند العدو، لكنّ الاختلاف يكمن في أنّ الصراعات العسكرية المسلّحة شكل من أشكال الحرب التقليدية.
(3) الإرهاب وحرب العصابات (Guerrilla Warfare): يكمن التشابه بينهما “في حجم المشاركين”؛ بمعنى أنّ مجموعات صغيرة نسبياً تسعى لتحقيق أهداف كبيرة، وذلك باستخدام العنف المنظم ضدّ أهداف عسكرية، ما يمكن اعتباره شكلاً من أشكال “الحرب التقليدية”، موجّهاً ضدّ القدرات العسكرية للخصم.
اقرأ أيضاً: صحافة الإرهاب .. صناعة التضليل: “النبأ” الداعشية نموذجاً
ومع ذلك؛ فإنّ حرب العصابات تقترب أيضاً من الحرب غير التقليدية، وذلك من ناحية اعتمادها تكتيك التخريب والتدمير، أو الإكراه والإجبار، فمن ناحية ما تقوم بدعم أطراف بطريقة سرّية ضدّ نظام سياسيّ معين، ومن ناحية الإكراه والقهر والتخويف (Coercive Context)، تسعى مجموعات حرب العصابات إلى زيادة شعورالدولة المعنية بالخوف، والخطر المحدق.
(4) الإرهاب والمجرمون المختلون عقلياً (Mentally Ill Criminals):
تُجمع الدراسات المتخصصة على أنّ الإرهابيين، مقارنة بالأشخاص العاديين، لا يعانون عادة من أيّة مشكلات نفسية سريرية، أو مشكلات الاضطراب النفسيّ، بل على العكس؛ إنّ الخلايا الإرهابية تتطلب استعداداً نفسياً على درجة عالية من اليقظة، واستعداد نفسيّ وبدنيّ متوازن، كما تتطلّب القدرة على العمل السريّ، كذلك فإنّ المنظمات والشبكات الإرهابية تدأب وبشكل مستمر على مراقبة وفحص أعضائها؛ لأنّ وجود أيّ عضو غير مستقر أو مضطرب نفسياً، يمكن أن يعرّض أمنها وعملياتها للخطر.
(5) الإرهاب والعمل الفرديّ (Lone Wolves): لا تسمح بعض الدّول والأجهزةالأمنية والجماعات السياسية في العالم، بإمكانية اعتبار “العمل الفردي” إرهاباً، أو أن يكون فاعله إرهابياً، فعلى سبيل المثال؛ يصرّ مكتب التحقيقات الفدرالية (FBI) على أنّ العمل حتى يكون إرهابياً، يجب أن تنفّذه جماعات متشابهة (Like-Minded)، لا أفراد يعملون وحدهم، وبالطبع؛ توجد إشكالية عميقة في مقاربة ظاهرةإرهاب الذئاب المنفردة، خاصّة موجة الإرهاب المعاصر بعد عام 2014، الذي يمثّله تنظيم داعش، وهو ما يحتاج إلى بحث خاص قد نتطرّق إليه لاحقاً.
إن الإرهابيين رغم استخدامهم الجرائم التقليدية في نشاطاتهم فإنّ المهم ليس الجرائم بحدّ ذاتها بل النظرة إلى الجرائم باعتبارها وسيلة لتحقيق أهداف محددة
(6) الإرهاب والجرائم التقليدية (Traditional Crime): يتضمّن المصطلحان اختلافات جوهرية؛ لأنّ المجرمين التقليديين يسعون لتحقيق أهدافشخصية: كالحصول على المال، والسلع المادية، أو القتل أو جرح ضحايا محددين، وهم ليسوا معنيين بكسب الرأي العام، على عكس الإرهابيين؛ الذين يسعون للحصول على دعم الرأي العام، وينظرون إلى فوائد العمل بحدّ ذاته.
كما أنّ معظم الإرهابيين يسعون إلى تغيير النظام، أو عناصر في هذا النظام، لكنّهم لا يرون أنفسهم إرهابيين؛ بل يجادلون بأنّ المجتمعات ورجال الأمن الذين يطاردونهم هم الإرهابيون.
اقرأ أيضاً: فلسفة الإرهاب ضدّ الغرب .. نظرية القتل: المعالم والجذور والتشريح
وتجدر الإشارة هنا؛ إلى أنّ الإرهابيين رغم استخدامهم الجرائم التقليدية في نشاطاتهم، فإنّ المهم ليس الجرائم بحدّ ذاتها لتمييز العمل الإرهابي عن الجريمة التقليدية؛ بل النظرة إلى الجرائم باعتبارها وسيلة لتحقيق أهداف محددة، وهو ما يشكّل الفرق بينهما.
مثلاً: توجد في الدول الديمقراطية وسائل كثيرة يمكن أن يستخدمها الفرد (أو الجماعة) لتحقيق هدفه، ومن أهمها: الانتخابات، والمسيرات، والاجتماعات، والمظاهرات، والاحتجاجات السلمية، ووسائل الإعلام الحرّة، وغيرها من وسائلالتعبير عن الرأي، لكنّ الإرهابيين لا يؤمنون بهذه الوسائل السلمية؛ وهذه إشكالية أخرى، لأنّهم يرون في العنف (Violence) وسيلة مناسبة لتحقيق أهدافهم.
اقرأ أيضاً: بريطانيا تحارب الإرهاب لكن ماذا عن القواعد الأصولية فيها؟
إذاً، تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة النظر في مفهوم الإرهاب التقليدي وتعريفه، وتوسيعه ليشمل تعديل القوانين والتشريعات لتجريم ظواهر خطيرة جداً، مرشحة للزيادة والانتشار في العالم العربي، مثل: خطاب الكراهية، والتحريض على العنف، الفعليّ والرمزيّ، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك في ظلّ انتشار ظاهرة الإرهاب العالمي، والتطرف الديني العنيف، وخطاب الكراهية، والتحريض على العنف، المعولم، خاصة في العالم العربي والإسلامي.