مدير مركز شُرُفات للدراسات والأبحاث
الدكتور سعود الشرفات
“من الاسباب الرئيسة للتطرف الاسلامي المعاصر هو ،التطرف المبني على فهم خاص للدين واشكال التدين خاصة اذا جاء من اشخاص يريدون كسر احتكار صوابية الخاصة أو رأي العلماء . هو ما فتح بوابة الأصولية و التطرف اللاسلاموي الحديث حينما تحول الى ايديولوجية تسعى لتحقيق برنامج سياسي وتشكيل دولة ، أو خلافة مثل خلافة ابو بكر البغدادي في داعش . ”
يقول (أريك هوڤر) في كتابه “المؤمن الصادق”- في محاولة قديمة بعض الشيء قبل موجة التطرف والإرهاب الحديثة لشرح دوافع التطرف –”وحده الفرد الذي يتعايش مع نفسه هو القادر على أن ينظر إلى العالم من حوله بلا انفعال، فيما تصف الحركات (والجماعات) المتطرفة أي وجود مستقل متميز بأنه وجود عقيم لا معنى له بل تذهب إلى اعتباره وجوداً منحلاً شريراً. وقدر المتطرّف أن يشعر بالنقص وفقدان الثقة، ولا يستطيع أن يستمد الثقة من قدراته الذاتية أو من نفسه التي تنكر لها، لكنه يجدها في الالتصاق المتشنج بالكيان الذي احتضنه إذ يجد المتطرّف في هذا الالتحام ما يحفزه على الولاء الأعمى الذي يشبه التدّين (أو هو التدين)، كما أنه يجد فيه نبع الخير والفضيلة والقوة، وبرغم أن المتطرّف يهدف بهذا الولاء الأعمى، في الدرجة الأولى إلى أن يحافظ على بقائه إلا أنه قادر على أن يعدّ نفسه جندياً يحمي القضية المقدسة التي اعتنقها وهو على استعداد للتضحية بحياته لكي يثبت لنفسه وللآخرين، أن هذا بالفعل هو دوره، أن يضحي بحياته، ليثبت أهميته!
وأعتقد أن ما ذكره (هوفر) صحيح وينطبق على كافة أشكال وأنواع ومصادر التطرف المؤدي إلى الارهاب في الحقبة الحالية من سيرورة العولمة.
إن مسالة التطرف الديني في الإسلام أو”الأصولية الإسلامية” كما يحلو لبعض الخبراء و(الأكاديميين) مثل (رودنسون) أن يسميها من المسائل التي تعرضت لبحث قديم وطويل . لكنها أزدهرت في العصر الحديث ؛ بداية مع الصدمة الأولى التي تمثلت بالاسلام الشيعي مع الثورة الايرانية 1979م . ثم بعد أربعة عقود تقريبا حدثت الصدمة الثانية الأعنف متمثلة بالاسلام السنّي مع بروز شبح تنظيم القاعدة وهجمات 11 ايلول 2001م الارهابية ضد أمريكا .
وكان المستشرقون والباحثون في الغرب قد حاولوا بشتى الطرق أما إلصاقها مباشرة بالإسلام، أو الحديث بشكل ضمني بأن الإسلام بمظاهره كدين وحضارة، يساهم في ذلك منطلقين من مقاربات تاريخية ونقدية ترى أن تفكير العرب الذي يتجلى باللغة العربية هو بصورة أساسية تفكير قياسي لا تحليلي، وان ذلك يظهر في الطريقة الإفتائية للشريعة الإسلامية وفي النظرية الذريّة في علم الكلام، والأعمال الأدبية حتى وصل الأمر إلى الفنون الزخرفية، وأن هناك صراعاً بين قيم المجتمع العربي البدوي وقيم الإسلام، وأن هذا ظهر في آيات القران الكريم رغم أن المستعرب الألماني (فرنسيس شتيبات)، نفى هذه النقطة الأخيرة وأن “هناك سمة خاصة انتشرت في عالم المعرفة الإسلامية، وكانت تتعلق بنشوء الشريعة والفقه والأدب، وهذه السمة هي التمييز الصارم بين الخاصة والعامة بحيث يأخذ برأي الخاصة في أي مسألة، أما رأي العامة أو ما يمكن أن ندعوه الآن بالرأي العام، فكان يُهمل تماماً.
ولقد أعطى هذا الأمر صبغة متعالية على معظم تلك المعارف أعلاه من شريعة أو أدب، انعكس سلباً على مجمل الحياة الإسلامية والحضارة الإسلامية، وأدى فيما بعد إلى المبالغة في تبجيل العلماء الذين يعتبرون الحجة في جميع فروع العلم والمعرفة، ومن ثمَّ وجود كمية محدودة من الأشياء التي يمكن معرفتها، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تكلس يكاد أن يكون عاما في المنظومة المعرفية الإسلامية”
وفي هذا السياق أشار عبد الحميد الشرفي أنه “في كل البلاد الإسلامية، وخاصة في المجتمعات التقليدية، يوجد إسلام العلماء وإسلام العامة، وبالخصوص في الريف وفي البوادي”
وأعتقد؛ بأن هذه الظاهرة موجودة أوسع وأعمق في المجتمعات الحضرية والمدن العربية ، وبين المسلمين في أوروبا وأمريكا في الحقبة الحالية من سيرورة العولمة التي أرى بأنها عززت من مكانة رجل الدين والمفتي الذي ينشر ويطرح الفتاوى في مختلف القضايا والشؤون الخاصة والعامة عبر آليات العولمة التكنولوجية خاصة الأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المتعددة الآن.
وكان الفيلسوف وعالم الاجتماع البريطاني من اصل تشيكي (أرنست غلنير) في كتابه (ما بعد الحداثة والعقل والدين، 2001) أن الإسلام كدين – ايمان وحياة – يماثل ما ساد خلال حقبة ما قبل الثورة الصناعية في (أوروبا) من حيث انه دين مؤسس عقدي أصولي بشكل كلي ومؤثر، وان صدمة الغرب تُحرض فيه ردة الفعل بنشاط وقوة وكثافة ضد الآخر المختلف.
وعندما تحدث غلنير (الذي يعتبر من منظّري المدرسة العقلانية النقدية ) عن سؤال خيارات الايمان وجد أن “الأصولية الدينية” قوية في المجتمعات الاسلامية تحديداً ،وعلل ذلك بالعلاقة بين الثقافة العليا ، والثقافة الدنيا ؛ والفصل الداخلي بينهما ، وأن الثقافة العليا تفرضها الأقلية – بمعنى اسلام الخاصة العلماء والفقهاء ورجال الدين – أو الاسلام الرفيع وهذا ما يعزز فرضية اسلام العامة أو الاسلام الشعبي (استخدم غلينر كلمة فلكلور:Folk Islam (ودين الخاصة الذي يمثلة رجال الدين والفقهاء والعلماء بالمعنى الوارد في التراث الاسلامي ( ) .
وأعتقد بأن هذا الأمر ليس اكتشافاً جديد لأرنست غلنير أو عبد المجيد الشرفي أوغيره لماذا ؟ لأن ابن رشد سبقهم اليه بقرون عديدة ؛ فعلى سبيل المثال يشير ابن رشد وفي تصريحٍ غريب – لا يليق بمفكر ٍوفقيه مثله بإحترام التفكير والعقل البشري حسب اعتقادي- حول مسألة التجسيم لصفات الله في الاسلام وهي مسالة أتفق معظم فلسفة الاسلام على نفيها ومعهم فرق المعتزلة والأشاعرة حين نفى ابن رشد الجسمّية عن الله ؛ لكنه أوصى – وهذا الغريب- بعدم التصريح بها لجمهور وعامة المسلمين ، والاحتفاظ بهذا النفي للخاصة وحدهم بحجة أن العامة يصعب عليهم تصور شيء غير موجود إلا أذا كان جسماً ، وإذا انتفت الجسمية صار من الصعب عليهم تخيل الله ؟!
وأعتقد بأن هذا الفصل السري بين العام والخاص الذي يُذكر بالجماعات السرية المغلقة ثم محاولة إنكار ذلك عبر محاولات ابعاد المماراسات الكهنوتية عن الاسلام؛ يعارض سيرورة العولمة ،و الحداثة ،أو سيولة الحداثة بالمعنى الذي قصده زيجمونت بومان ، لكن الأخطر أنه يثير الخوف والرعب في الآخر ، ومن الاسباب الرئيسة للتطرف الاسلامي الحديث ،وهذا التطرف المبني على فهم خاص للدين واشكال التدين خاصة اذا جاء من اشخاص يريدون كسر احتكار صوابية الخاصة أو رأي العلماء هو الذي فتح بوابة الأصولية و التطرف اللاسلاموي الحديث حينما تحول الى ايديولوجية تسعى لتحقيق برنامج سياسي وتشكيل دولة ، أو خلافة مثل خلافة ابو بكر البغدادي في داعش .