يتغذى التطرف الديني العنيف، ثم الإرهاب العالمي المعاصر، من قائمة طويلة وواسعة من الأسباب، التي تتفاوت أهميتها حسب أوزانها النسبية؛ من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر.
وتأخذ ردود الفعل على الشعور بالإهانة والازدراء أشكالاً مختلفةً وعبقريةً، لا يمكن لأحد أن يتوقّعها؛ ابتداءاً بالحرب الأهلية، فحرب العصابات المسلحة ثم الإرهاب، خاصة إذا لبست رداء الدين وعباءته.
وأعتقد بأنّ الأسباب الدينية، ثم السياسية، تعدّ أهم محركات الإرهاب العالمي المعاصر ودوافعه، خاصة إذا علمنا أنّ الإرهاب نفسه هو نوعٌ أو شكلٌ من العنف السياسي، ثم هو تكتيكٌ سياسيٌّ يهدف إلى تحقيق أهدافٍ سياسيةٍ، ولا يمكن أن يكون إستراتيجيةً قابلةً للتنفيذ، أو النجاح، أو العيش.
نسوق هذه التوطئة السريعة، تعليقاً على الكمّ الهائل من الأخبار والتعليقات والتحليلات السياسية، التي أعقبت إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في السادس من كانون الثاني (ديسمبر) 2017، اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، ونقل سفارتها إليها، وقد أكّدت تلك التعليقات، في معظمها، أنّ خطوة ترامب هذه ستفتح نار الجحيم على “إسرائيل” وأمريكا، وستزيد من فورة التطرف الديني والإرهاب، بأشكالٍ وأنواعٍ أسوأ من إرهاب داعش والقاعدة وغيرها.
فهل هذه التحليلات دقيقة وممكنة الحدوث بالشكل الذي طُرح؟ وقد بدا البعض منها وكأنه نوعٌ من الأمل والأمنيات! وكيف ترى السياسة الأمريكية مسألة الربط بين الإرهاب والدين والسياسة؟
هنا، لا بدّ من أن أُشير إلى الدراسة الواسعة التي شارك فيها (30) باحثاً وأكاديمياً، برعاية المعهد (النرويجي) للعلاقات الدولية في (أوسلو)، ونشرت قبل عقدٍ ونصف من الزمن، في حزيران (يونيو) عام 2003م، تبيّن أنّ هناك أربعة أسباب رئيسة للإرهاب، وهذه الأسباب لم تتغير، بحسب اعتقادي، حتى الآن وهي:
الأسباب الهيكليـــة:
سيرورة العولمة وضغوطاتها وآثارها الواسعة.
الاختلال الديمغرافي.
تسارع وتيرة الحداثة.
زيادة الشعور بالفردانّية.
الإحباطات.
المجتمعات العابرة للحدود القومية.
هيكلية الطبقات الاجتماعية.
الأسباب المسـاعدة أو المسـرّعة، من أهمّها:
سيرورة العولمة، وتحديداً تسارع التطور (التكنولوجي) في وسائل التواصل، والمواصلات، والنقل، والإعلام، والأسلحة المختلفة.
ضعف وتراخي سيطرة الدول على حدودها القومية.
الأسباب الدافعة أو المحفّزة، وتشمل:
الشعور بالإحباطات الشخصية، وهنا يلعب القادة السياسيون، والزعماء، ورجال الدين المؤثرون، والمؤدلجون في المجتمع، أدواراً رئيسةً وخطيرةً في عملية نقل الإرهاب إلى حدوده القصوى، من المستوى الأول (الأسباب الهيكلية) إلى المستوى الثالث.
الأسباب المثيرة أو المنبّهة (Triggering Cauese)؛ وهي الأسباب الأهم والأولى في الإرهاب، أهمها:
العدوان والحرب والاحتلال.
ردود الفعل على العدوان أو الشعور بالظلم والإهانة.
الثأر بالمعنى الأوسع.
علاوة على قائمة الأسباب، المركّزة جداً، أعلاه، يمكن لنا أن نرصد مجموعة من الأسباب بحسب أهميتها النسبية، خاصّة وأنّه لا يوجد إجماع بين منظّري الظاهرة على السبب الرئيس للإرهاب، وتشمل هذه القائمة الآتي:
أ. تردّي أوضاع حقوق الإنسان، وانعدام الديمقراطية، وتردي وضع الحريات السياسية، وحرية التعبير عن الرأي، وحرية الصحافة والإعلام، والتعددية السياسية، وتداول السلطة.
ب. ظروف الاحتلال للدول، والغزو، وتدمير البنى التحتية: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، للدول المحتلة، وتوجد أمثلة كثيرة عن ذلك؛ في فلسطين، والعراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، وأفغانستان، والفلبين، وميانمار.
ج. الشعور بالاغتراب، وانسداد الأفق، والتمييز، واليأس، والإحباط.
د. استخدام بعض القضايا الرئيسة غطاءً وذريعةً للعمليات الإرهابية، مثل: قضية فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وسوريا، وليبيا، ومصر، وتونس، خاصةً بعد ثورات الربيع العربي.
ه. فساد النخب السياسة، وعدم الثقة بها.
و. الفراغ السياسي، وعدم مشاركة الشباب في العمل السياسي، نتيجة عدم نجاح الأحزاب بحشـد الشبـاب وراء هـدفٍ، قومـي أو عـام، أو من أجل بناء مسـتقبل؛ لـذلك تـحولت كـافة التنظيمات الشعبية إلى تنظيمات رسمية، كالاتحادات والنقابات، وأصبحت العضوية فيها شكليةً، فجاءت التنظيمات المتطرفة والإرهابية لتملأ الفراغ.
العولمة – الإرهاب – الترامبويّة
جاءت الترامبويّة لتنسف الكثير من جسور قطار العولمة، التي تعامل معها الرؤساء الأمريكيون السابقون بحذرٍ شديدٍ، وكان ترامب الوحيد الذي أعلن موقفاً صريحاً معارضاً لها منذ البداية، ليس فقط لأنّ الإرهاب كان الثمرة العفنة للعولمة؛ بل لأنّه يعتقد بأنّها تؤثر سلباً على أمريكا اقتصادياً.
لكنّه، وهو يرفض العولمة الاقتصادية، عرقل العولمة الاجتماعية والثقافية، خاصة تجليهما الديني، حين منع المسلمين من عدد من الدول من دخول أمريكا، أو ضيّقَ عليهم فيها.
أعتقد أنّ الدين وأشكال التدين (وهو هنا يقع في قلب المستويات الأربعة من الدراسة النرويجية)، في هذه الفترة المعاصرة من العولمة، سيلعب الدور الأكبر في تثوير الوضع القائم والجمود، سواء في عملية السلام، أو تردي الأوضاع المعيشية للبشر في المنطقة العربية، بشكل عام. وله وزن نسبيّ أكبر من كلّ العوامل الأخرى في تحريك الظاهرة، لكنّ الآراء حول أسباب الظاهرة تختلف باختلاف المقاربات والجهات التي تتناولها (دول، منظمات ، ومؤسسات، وأفراد)؛ فالأطراف الفاعلة من الدول تتناول الأسباب بما يناسب مصالحها وعقيدتها الأمنية، التي قد تختلف عن وجهات نظر الأطراف الفاعلة من غير الدول، مثل: مؤسسات المجتمع المدني، والباحثين، والخبراء، ومؤسسات البحث العلمي والأكاديمي، وبناءً عليه؛ يمكن القول إنّه من الصعب حصرها بسببٍ واحدٍ، أو مجموعة أسبابٍ خاصةٍ، وإنّها أصبحت تتغير بتسارع يتماهى مع سيرورة العولمة؛ لذلك عملت الأطراف الفاعلة من الدول، خاصة أمريكا والدول الأوروبية، وتحديداً عقب هجمات 11 أيلول الإرهابية ضد أمريكا، بمقاربةٍ تركّز على محاربة الإرهاب على هذه المستويات جميعها، من خلال الدعوة إلى الإصلاح السياسي والتعليمي والاقتصادي، والحديث عن بناء الديمقراطية، والإصلاح الديني، بهدف بناء ثقافة التسامح وتقبُّل الآخر، وأذكر هنا أنّه، ضمن هذه السياقات، ظهر ما عُرف بمبادرة (كولين باول)، وزير الخارجية الأمريكي، عام 2002م، لنشر الديمقراطية، ثم المشروع الفاشل لإدارة باراك أوباما بدعم “الإسلام السياسي”، الذي تحطّم نهائياً على يد دونالد ترامب.
إنّ هذه الرؤية المصرَّح بها في الغرب، تشير إلى حالةٍ على غايةٍ من الأهمية، هي أنّ العلاقات الدولية والسياسية الخارجية لدولٍ شهدت تحولاً جوهرياً بعد هجمات 11 أيلول، وقبل ذلك؛ كانت السياسات الداخلية، في معظم الأحوال، تترك للأنظمة الحاكمة؛ سواء كانت صديقة أو عدوة، مقابل تأمين مصالحها الحيوية في المنطقة، مع ضمان إبعاد شبح وصول الإسلاميين إلى السلطة، ثم تحولت هذه السياسات إلى مستوى آخر، هو التدخّل والتوغّل في البنى الداخلية للدول، بوصفها “المولِّد الأساس للإرهاب”، لكنّها فشلت في فهم، أو تفهّم، أسباب حالة الغضب والحنق الذي يعيشه البشر العاديّين في المنطقة.
إنّ الشعور بالازدراء والإهانة، يمكن أن يؤدي إلى زيادة حدة التوتر والقلق، ما يؤدي إلى انفجار ثورة الغضب والعنف الهائل.
وهذا الغضب والعنف، يمكن أن يتحوّل بسهولةٍ إلى أداةٍ أو سلاحٍ في يد المهان الضعيف، قد يحطمه داخلياً، إذا بقي مكبوتاً، بفعل عوامل الضبط والتحكم الداخلية والخارجية.
أمّا إذا وجد مخرجه إلى الفضاء العام، فإنّه يتحوّل إلى طاقة متفجرة من الغضب والتدمير، خاصة إذا تم تكثيف هذه الطاقة تجاه هدفٍ بؤريّ محددٍ، وتدل تجارب الحياة والتاريخ، القديم والحديث، على أنّ هذا ما حصل؛ بداية من الحرب البولبونزية، عام 431 قبل الميلاد، ثم الهند، وجنوب إفريقيا، حتى أمريكا اللاتينية. والخطورة في الأمر؛ أنّ هذا الانفجار سيكون في كافة الاتجاهات، ولن يميز بين ترامب أو غيره.
لقد قمنا نحن، جمهور المهتمين بظاهرة الإرهاب المعاصر، بالتنظير للإرهاب على أنّه سلاح الضعيف في وجه طغيان القوة العسكرية الغاشمة، وأنّه نوعٌ من الاحتجاج على سيرورة العولمة ولبيراليتها المتوحشة.
لكنّني أعتقد أنّه يمكن للعولمة أن تكون أداة تحطيمٍ وهدمٍ للقوة الغاشمة الغبية، التي يمثلها دونالد ترامب (الترمبّويّة)، التي ناصبها العداء والاحتقرار منذ يومه الأول.
ولعلّ من المفارقات العبقرية للتغيرات والتحولات الاجتماعية، أن يتحايث ويتكاتف الإرهاب، الثمرة العفنة للعولمة، مع سيرورة العولمة نفسها، ليقف في مواجهة طغيان الترامبويّة.
-الدكتور سعود الشرفات
نشر هذا المقال في موقع حفريات الأربعاء 13 ديسمبر 2017