نقد الخطاب الحضاري

0

images

التاريخ ليس استمرارا للماضي؛ لو كان كذلك، لبقي عالمنا اليوم معتما ومتوحشاً، وجزرا معزولة. كما لبقي الاستعمار والاستبداد والظلم والتهميش. ولبقيت باكستان أيضاً، منذ العام 1858، مستعمرة لبريطانيا، ولم تنل استقلالها العام 1947، ولما فاز في العام 2016 البريطاني المسلم الباكستاني الأصل صادق خان-وهو المحامي المتخصص بحقوق الإنسان واليساري المعتدل، مرشح حزب العمال- بمنصب رئيس بلدية لندن التي تعتبر واحدة من أكثر مدن العالم تنوعا من الجوانب العرقية والدينية؛ إذ يبلغ عدد سكانها 8.6 مليون نسمة، بينهم مليون مسلم.وليكون خان أول مسلم يرأس بلدية عاصمة دولة عضو في الاتحاد الأوروبي.
صادق خان فاز على منافسه الرئيس زاك غولدسميث، مرشح حزب المحافظين الذي حاول اللعب على استمرارية الماضي المبني على الاستعمار والتهميش، وربطه بحاضر بغيض يتنفس الـ”إسلاموفوبيا”، والترهيب والتخويف من خطر الإرهاب والخوف من الأجانب والمهاجرين، ومهاجمة خان بأنه مسلم متطرف يدعم الجماعات الإسلامية المتطرفة.
لكن خان رد ّعلى منافسه وعلى هجوم خصومه العنيف، بتأكيده أن فوزه يعني “انتصار الأمل على الخوف، والوحدة على الانقسام”.
لقد لعب الدين دوراً مهماً في انتخابات بلدية لندن، في ظل انتشار الخوف من المتطرفين والإرهاب والأجانب والمهاجرين والـ”إسلاموفوبيا” في بريطانيا وأوروبا وأميركا، خاصة أن خان قدم نفسه في الحملة الانتخابية  كمسلم عصري ومنفتح، قادر على محاربة المتطرفين الإسلاميين، وأن انتخابه سيعطي صورة مختلفة عن تلك التي يروجها ويريدها المتطرفون الإسلاميون عن بريطانيا والغرب بشكل عام. وذلك في مقابل الهجوم السياسي الضاري عليه من قبل صحف ووسائل إعلام ذات توجهات يمينية، كما من قبل خصومه في حزب المحافظين، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الحالي ديفيد كاميرون، ووزير الدفاع الحالي مايكل فالون الذي حاول اللعب على وتر الترهيب والتخويف للمواطنين في لندن، مدعياً أن خان لا يصلح للمنصب بحجج أمنية بحتة؛ مثل أن منصب عمدة لندن له دور مهم في العلاقة مع الشرطة والقوات المسلحة في إطار مكافحة الإرهاب، وأن هذا لا ينسجم مع شخص خان لأن له صلات مع المتطرفين الإسلاميين في بريطانيا، وأنه كان يدافع عن بعض المتهمين في قضايا التشدد والتطرف الديني. رغم أن خان اعتذر لاحقا عن مشاركته في بعض الفعاليات الجماهيرية التي كان شارك فيها متشددون.
الدرس الأول الذي يمكن أن نتعلمه من فوز خان، ونبني عليه كبشرٍ نتشارك العيش على هذا الكوكب المعولم، لاسيما في عالمنا العربي وفضائنا الإسلامي العريض، هو أن الخوف يتغذى على  التطرف الديني والإرهاب، وأن أجواء الخوف والرعب المستمرة والمدروسة تقتل الأمل.
فبريطانيا (حكومة ومؤسسات ومجتمعا) -رغم حالة الاستقطاب السياسي العنيفة والحادة، وانتشار الاتجاهات الحديثة للـ”إسلاموفوبيا” والعنصرية والتطرف الديني والخوف من الأجانب والمهاجرين، والدعاية الإعلامية اليمينية المتطرفة الواسعة التي تنتشر في أوروبا حاليا انتشار النار في الهشيم- قدمت نموذجاً مثيراً يعاكس التيار في أوروبا، لكنه يحتذى بإمكانية العيش والتواصل الإيجابي؛ وأن الحرية والديمقراطية كقيمتين عليين هما ما يمكّن الأفراد العاديين مثل خان، في نهاية الأمر، من الاختيار وتحديد شكل مستقبلهم، من دون تخويف أو ترهيب أو وصاية من أحد، حتى لو كان رئيس وزراء أو وزير دفاع، ومهما كانت سيطرة وسطوة وسائل الإعلام، والرطانة الواسعة لتزييف الوعي وتشكيل الرأي العام. فالحرية والديمقراطية هما الضمانة لحسن الاختيار والمفاضلة بين قيمتي الأمن والحرية.
أما الدرس الثاني، فهو أن فوز خان يمثل فرصة ثمينة يمكن اهتبالها لتعزيز قيم خطاب التسامح الحقيقي، كآلية عصرية يمكن البناء عليها لنقد حضاري عميق للخطاب الديني والقومي المتطرف السائد من كل الجهات؛ الإسلامي أو الفاشي والعنصري الذي يَبْعث معا ويغذي الروح في كافة اتجاهات الـ”إسلاموفوبيا” المعاصرة والخوف من الأجانب والمهاجرين، واستغلال أشكال التدين العام كأدوات سياسية تستغل اليوم أبشع استغلال لتحقيق الأهداف السياسية والفوز في الانتخابات في الفضاء الأوروبي وأميركا، كما في العالم العربي والإسلامي.

تم نشره في الخميس 12 أيار / مايو 2016. 12:00 صباحاً في صحيفة الغد الاردنية

د. سعود الشرفات 


About Author

Saud Al-Sharafat ,Phd https://orcid.org/0000-0003-3748-9359 Dr. Al-Sharafat is a Brigadier-General (Ret), Jordanian General Intelligence Directorate (GID). Member of the National Policy Council (NPC), Jordan, 2012-2015. The founder and director of the Shorufat Center for Globalization and Terrorism Studies, Amman. His research interests focus on globalization, terrorism, Intelligence Analysis, Securitization, and Jordanian affairs. Among his publications: Haris al-nahir: istoriography al-irhab fi al-Urdunn khelall 1921-2020} {Arabic} {The River Guardian: the historiography of terrorism in Jordan during 1921-2020}, Ministry of Culture, Jordan, www.culture.gov.jo (2021). Jordan, (chapter)in the Handbook of Terrorism in the Middle East, Insurgency and Terrorism Series, Gunaratna, R. (Ed.), World Scientific Publishing, August 2022, 47-63 https://doi.org/10.1142/9789811256882_0003. Chapter” Securitization of the Coronavirus Crisis in Jordan, “Aslam, M.M., & Gunaratna, R. (Eds.). (2022). COVID-19 in South, West, and Southeast Asia: Risk and Response in the Early Phase (1st ed.). Routledge. https://doi.org/10.4324/9781003291909

Leave A Reply