* الكاتب الأردني إبراهيم غرايبة
30نيسان 2016م
صدر مؤخرا عن دار الأهلية في عمّان، وبدعم من وزارة الثقافة، كتاب “الإرهاب العالمي والتطرف: صراع الظواهر وتقارب المسلمات في ظل العولمة”، للدكتور سعود الشرفات. وكان قد صدر للمؤلف من قبل كتاب “العولمة والإرهاب : عالم مسطح أم وديان عميقة؟ في طبعتين 2011،2012 ، ويواصل الشرفات في هذا الكتاب بحث العلاقة بين الإرهاب والعولمة (بالنظر إلى أن الإرهاب ثمرة متعفنة للعولمة) في ضوء الأحداث والمستجدات التي ظهرت في السنوات الخمس الأخيرة.
سادت فكرة في ذروة “الربيع العربي” عن نهاية الإرهاب والاستبداد، وكنت مؤيدا لهذه الفكرة. وظل الشرفات يجادل في أن الإرهاب متصل بديناميات العولمة، ولا علاقة له؛ تطورا أو انحسارا، بالربيع العربي. واليوم، لم يعد من مجال للجدال بين المقولتين؛ فقد عاد الإرهاب والاستبداد في هجمة مرتدة لعلها الأسوأ في التاريخ الحديث، وتحولا إلى صراعات وحروب أهلية عصفت بدول ومجتمعات، وشردت ملايين البشر.
على الرغم من قدم ظاهرة وحالات التطرف والإرهاب والكراهية، فإنها اليوم، ومنذ التسعينيات، صارت مرتبطة بالدين، وكانت قبل ذلك لا علاقة لها بالدين. وفي صعودهما معا؛ الدين والعولمة في موجتها الأخيرة (ذلك أن العولمة ليست ظاهرة حديثة)، تشكلت تفاعلات وظواهر أخرى جديدة. فالدين يمنح دوافع إضافية وصلابة وتماسكا للأفكار والمواقف والجماعات، ويطيل عمرها وربما يخلّدها! لكن الأكثر خطورة في العولمة والدين كحالتين مستقلتين أو متفاعلتين، أنهما يغيران أيضا في قواعد الصراع واتجاهات الحروب على نحو يوجب البحث عن نظريات وأفكار جديدة للفهم، أو تطوير ومراجعة الأفكار والنظريات السائدة.
لا يمكن، بالطبع، أن نواجه التطرف والإرهاب والكراهية من غير فهمها؛ ولا يمكن فهمها من غير الاقتراب منها؛ ولا يمكن الاقتراب منها من غير استيعابها والتفاعل معها إيجابيا، بما في ذلك من آثار وتغييرات محتملة على الأطراف الفاعلة والمشاركة في المواجهة والتعاون والصراع. ويمكن الاستدلال بأمثلة كثيرة وواقعية اليوم؛ كيف اتجهت السلطات السياسية والمجتمعات والأفراد إلى التدين وتطبيق الدين على نحو غير مسبوق في التاريخ الإسلامي، وكأن الصراع مع المتطرفين تحول إلى صراع على الدين نفسه، ثم إلى تنافس في تطبيق الدين؛ يجب أن تلاحظ السلطات والمؤسسات والمجتمعات في مواجهتها وتفاعلها مع التطرف، إلى أين تمضي وأين تقف، وأين يجب أن تتوقف!
ومن ظواهر الإرهاب المتعولم اليوم، والتي يلفت الشرفات الاهتمام إليها، أن الدول الغربية تصدّر الإرهابيين إلى العالم الإسلامي! صحيح أنهم مسلمون، ولكنهم يحملون الجنسية والمواطنة لدول غربية. وهذا يؤشر (يجب أن يؤشر) إلى أزمة هذه الدول والمجتمعات نفسها في استيعابها وإدارتها للعولمة ومتطلباتها.
وفي تفاعل الإرهاب مع العولمة، تشكلت ظواهر وحالات جديدة تحتاج إلى دراسة أكثر عمقا وجدية؛ فقد أبدى المتطرفون استجابات وتفاعلات مع تكنولوجيا المعلوماتية والشبكية، بمستوى من الحيوية والإدراك يتفوق على معظم المكونات الأخرى في الدول والمجتمعات، وصارت الشبكة مسرحا آمنا للتجنيد والدعوة والتأثير والتدريب والتواصل والعمل والتنظيم… كما أنها تكنولوجياً ارتقت بقدرات الفرد ليشكل وحده جماعة إرهابية نشطة وفاعلة (الذئب المتوحد).
تؤكد التقارير والمصادر المتخصصة في مكافحة الإرهاب على أن الجماعات المتطرفة والإرهابية تزداد خطورتها وتأثيراتها على الأمن والاستقرار في العالم، ومازالت تشكل تهديدا لكثير من الدول، كما أن هناك زيادة في عدد مقاتليها، وفي قدرتها على الحشد والتنظيم واستقطاب المؤيدين والمقاتلين.
تعدّ هجمات القاعدة على برجي مركز التجارة العالمي في 11 أيلول سبتمبر 2001 مرحلة تأسيسية في الإرهاب ومكافحته، وربما يكون صحيحا القول إن هذا التاريخ (11 أيلول سبتمبر) سيظل يوما فاصلا في التاريخ العالمي وتحولاته، وسيظل يقال ما قبل أو ما بعد 11 أيلول، ويمكن استحضار سلسلة طويلة من الأحداث التي أعقبت الحادي عشر من أيلول مثل الاجتياح الأمريكي لأفغانستان والعراق، وما تبع ذلك من صراعات ممتدة وتحولات في الأنظمة السياسية والاجتماعية والتشريعية في معظم أنحاء العالم.
يؤثر الإرهاب سلبيا على الحريات الفردية والديمقراطية في الدول التي تتعرض للإرهاب أو يهددها الإرهاب؛ فمكافحة الإرهاب تستدعي بطبيعة الحال التنازل عن بعض الحريات الفردية وعن الكثير من مظاهر الديمقراطية، والتي تعد أساس العولمة في الغرب، وفي ذلك تتخذ العلاقة بين العولمة والإرهاب اتجاها جديدا.
ويعتمد المؤلف بعد سلسلة من العروض والنقاشات لمفهوم الإرهاب وتعريفه أنه “عنف سياسي متعمد، أو التهديد به ،بهدف زرع حالة من الخوف المستمر والمتخطي للحدود الدولية وبث الرعب، ويستهدف الأهداف المدنية، كما تخطط له وتنفذه أطراف فاعلة دون الدول”.
وهناك جدل لم يتوقف حول أسباب الإرهاب وجذوره، وفي دراسة للمعهد النرويجي للعلاقات الدولية (2003) طرحت أربعة أسباب للإرهاب، 1- أسباب هيكلية: سيرورة العولمة وضغوطاتها وآثارها الواسعة، والاختلال الديموغرافي، وتسارع وتيرة الحداثة، والإحباطات، والمجتمعات العابرة للحدود القومية، وهيكلية الطبقات الاجتماعية، 2- أسباب مساعدة أو مسرعة ومن أهمها تسارع التطور التكنولوجي في وسائل التواصل والمواصلات والإعلام والأسلحة ، ضعف وتراخي سيطرة الدول على حدودها القومية، 3- الأسباب الدافعة أو المحفزة، وتشمل الشعور بالإحباطات الشخصية، وهنا يلعب القادة السياسيون والزعماء ورجال الدين والمؤدلجون في المجتمع أدوارا رئيسة وخطيرة في عملية نقل الإرهاب إلى حدوده القصوى، 4- الأسباب المثيرة أو المنبهة، وهي الأسباب الأهم والأولى في الإرهاب، وأهمها العدوان والحرب والاحتلال، وردود الفعل على العدوان أو الشعور بالظلم والإهانة، والثأر بالمعنى الأوسع.
أنواع الإرهاب
يرى المؤلف أن الإرهاب لا يقتصر على القتل والتدمير وإشاعة العنف والخوف وحسب، بل يتعداه إلى أنواع أخرى مختلفة ومتداخلة، ومنها الإرهاب الاقتصادي بضرب المصالح الاقتصادية لبلد ما، مثل استهداف المركز العالمي للتجارة في نيويورك والأماكن السياحية في والأردن ومصر وإندونيسيا (بالي) وإسبانيا، والإرهاب السياسي بالقتل العشوائي، والإرهاب الإلكتروني باستخدام شبكة الإنترنت والتواصل الاجتماعي لأجل التأثير والتجنيد.
يرصد سايمون ميردين كما يقتبس منه المؤلف التصاعد التدريجي للمد الإسلامي بدءا بالثوة الإيرانية 1979، والهجوم على المسجد الحرام في مكة 1979 على يد مجموعة سلفية متطرفة، واغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات 1981، وصعود حزب الله في لبنان، والحرب الأهلية في الجزائر، وحملة العنف والإرهاب في مصر في التسعينيات، والأصولية الإسلامية في أفغانستان بدءا بالغزو السوفيتي 1979 وما تلا ذلك من سلسلة أحداث كبرى مؤثرة في العالم، .. وأخيرا بروز التحدي الذي يفرضه الإسلام السياسي المتشدد في دول عربية وإسلامية كثيرة.
ثمة أسباب كثيرة لظهور العنف والتطرف والإرهاب والكراهية في عالم العرب والمسلمين؛ منها الصراع العربي الإسرائيلي، والسياسات الأمريكية في المنطقة، وانخفاض مستويات التنمية الاقتصادية والإنسانية والفقر والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين فئات المجتمع الواحد وبين الدول، والاستبداد وغياب الديمقراطية، وانحسار تأثير الطبقة الوسطى، والعداء للإسلام.
ويظل السؤال الجوهري الملح على المجتمعات والدول هو كي تواجه العنف والأسباب والحوافز المحركة للتطرف والإرهاب؟ ويبدو الدين في شكل عام في هذه المرحلة من سيرورة العولمة أهم محركات التطرف الذي يمهد للإرهاب والكراهية، ولا يحتاج الباحث كما يقول الشرفات إلى جهد كبير لملاحظة العلاقة بني التطرف الديني والإرهاب والعنف، رغم الرطانة -يقول المؤلف- الواسعة والدفاع المستميت عن قيمة التسامح في الأديان العامة.
ويمكن أن نلاحظ قدرا هائلا من التراث الإسلامي تمتلئ به المصادر عن الفرقة الناجية والفرق والملل والنحل، وذم المخالفين والفتاوى المحرضة على الناس، والمنهج الإقصائي في التفكير والتدريس، ويجد المؤلف في مقاربة المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في مواجهة الفكر المتطرف، وهي تقوم على الدعوة إلى تفاهم مشترك بين أبناء المجتمع الواحد والأمة الواحدة، والابتعاد عن التشكيك في عقائد المخالفين مذهبا أو طائفة أو دينا، والدعوة إلى منهج بديل يبتعد عن فكر الإقصاء والتكفير والتشكيك بعقائد المخالفين، والدعوة إلى حوار ذاتي بين أبناء المجتمع الواحد لنشر ثقافة الحوار، واحترام الآخر، وغرس قيام التسامح والمبادئ الجامعة للناس، والدعوة إلى خطاب ديني أكثر استنارة وخطاب إعلامي أكثر انفتاحا وأكثر تسامحا وخطاب تعليم أكثر قبولا للآخر وأكثر ديمقراطية.
ويختم المؤلف بأفكار أولية يراها مدخلا للفهم في هذا المجال: التركيز على أهمية دور الفكر والإيمان المطلق والأعمى بالفكرة والاستماتة في الدفاع عنها وعن وعي وتخطيط وفهم واضح وعميق، وعدم الاستخفاف أو الاستهانة بفكر الجماعات المتطرفة أو محاولة شيطنتها، والتأكيد على احتمال فشل الحوار مع الجماعات المتطرفة، وضرورة وجود مقاربة فكرية موازية للفكر المتطرف وليس مواجهة له أو معارضة أو منافسة.
ويشير إلى أن هناك قطاعا واسعا وطفيليا يتكسب من وراء الرطانة الواسعة حول محاربة التطرف أو مكافحة الإرهاب إضافة إلى الدول مثل الخبراء الأكاديميين والشيوخ والوعاظ والمحللين والكتاب والمنظمات غير الحكومية ومراكز البحوث والدراسات والمرتزقة وشركات الحماية والمجتمع الصناعي، .. لقد تشكل قطاع طفيلي واسع له مصلحة ببقاء وحش الإرهاب طليقا…
ينتقل سعود الشرفات بفهم ظاهرة الإرهاب والتطرف من الحملات الدعائية والإعلامية، إلى الفهم العلمي، وربما يكون كتابه الوحيد أو هو كتاب نادر في الإنتاج الفكري العربي في موضوع الإرهاب، بالنظر إليه موضوعا للبحث العلمي المنهجي، وليس سجالا اجتماعيا أو حشدا عاطفيا. ومن ثم، ربما لا يكون الكتاب -شأن أي كتاب علمي- مسليا، لكن لشديد الأسف، فإن التسلية لا تمنحنا الفهم الصحيح، ولا تساعد متخذي ومصممي القرارات والسياسات .
*نشرت هذه المقالة في مجلة ذوات –مؤسسة مؤمنون بلاحدود 30-4-2016م .
إبراهيم الغرايبة باحث اردني متخصص في الإسلاميات ,وعضو الهيئة الاستشارية لمركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب