صُدمّت الأجهزة الاستخبارية في العالم (الثلاثاء 5/4/2016) من الإجراء الذي قامت بها شركة (واتس آب) لخدمة التراسل الفوري المملوكة لشركة (فيسبوك) عملاق شركات التواصل الاجتماعي (التي يصل عدد مستخدمي تطبيقها إلى سُبع عدد سكان العالم تقريبا، حيث أظهر أحدث تقرير للأمم المتحدة أن عدد سكان العالم حاليا 7.2 مليارات نسمة) حينما أعلنت البدأ بتشفير جميع اتصالات المستخدمين المحادثات والاتصالات الصوتية عبر تطبيقها وذلك حسب ما نشرته مختلف وسائل الإعلام العالمية.
وبموجب هذا الإجراء – وحسب ما نشرته وسائل الإعلام العالمية – سيجري تشفير الرسائل على مستوى المستخدم النهائي فور إرسالها من المستخدم ولا يمكن فك الشفرة إلا من خلال جهاز الشخص المرسل إليه ما سيحول دون قراءة الرسائل إذا جرى مراقبتها واعتراضها من قبل الأجهزة الاستخبارية المختلفة أو غيرها من جهات إرهابية أو إجرامية أو هاكرية.
ومبعث هذه الصدمة أنها جاءت على خلفية الصراع حول كيفية مقاربة معضلة الأمن والحرية، وكيفية مكافحة الإرهاب العالمي وتعارض وجهات النظر بين: الأطراف الحكومية (المجمّع الاستخباري والأجهزة القضائية) والمجتمع المدني وشركات تكنولوجيا المعلومات العملاقة المتخطية للحدود القومية وهو ما تجلّى بالجدل والمعركة القضائية بين وزارة العدل الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالية، وعملاق التكنولوجيا شركة أبل التي تنتج هواتف آي-فون الذكية حول حدود حرية الأفراد من جهة ومتطلبات الأمن ومكافحة الإرهاب من جهة أخرى، علما بان تطبيق تليغرام، المعروف من قبل الأجهزة الاستخبارية في العالم بأنه يستخدم من قبل تنظيم داعش لتبادل المعلومات كان يستخدم التشفير النهائي للرسائل قبل الواتس-آب.
الصراع؛ تركز حول قضية تشفير المعلومات الخاصة بالمستخدمين وعلاقتها بكيفية مكافحة الإرهاب خاصة تنظيم داعش ونشاطه على الساحة الأمريكية. ومن هنا بدأ تسليط الضوء على التشفير بشكل كبير- لكنه سري – في المجمعات الاستخبارية العالمية المختلفة، وفي أروقة ضيقة في قطاع عمالقة تكنولوجيا المعلومات وخبراء أمن الشبكات والتشفير في القطاع الخاص بعد أن رفضت شركة أبل التي تصنع هاتف آي-فون الموافقة على طلب مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي مساعدته في الدخول إلى بيانات هاتف (آي فون) الذي استخدمه الأمريكي سيد رضوان فاروق منفذ هجوم سان برناردينو- كاليفورنيا الإرهابي بالاشتراك مع زوجته تاشفين مالك في كانون أول 2015م والذي أودى بحياة 14 شخصا وجرح 17. ونقلاً عن مسؤولين أمريكيين؛ ذكرت محطة (سيي – أن – أن، 5/كانون أول /2015م) أن تاشفين كانت قد عبرت في تدوينات لها على الفيسبوك ولاءها لتنظيم داعش يوم تنفيذ العملية الإرهابية التي تبناها التنظيم.
ثم استعرت الحرب بين الطرفين اكثر عندما تبين أن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي تمكن بمساعدة من خبراء أدلة جنائية وأمن إلكتروني بشركة (سيلبرايت) الإسرائيلية من اختراق بيانات هاتف فاروق دون مساعدة من شركة أبل التي كانت تعارض قرار المحكمة الذي طالبها بتطوير برمجيات تسمح للمسؤولين باختراق هاتف فاروق بعد قيام وزارة العدل برفع دعوى قضائية ضدها.
الصراع حول الأمن والحرية
أصبحت معضلة الأمن والحرية من اهم “الاتجاهات العظمى” للإرهاب العالمي في الحقبة الحالية من العولمة وتتجلى هذه المعضلة اكثر ما تتجلى في الغرب والمجتمعات الليبرالية الديمقراطية وبالذات في أمريكا وأوروبا الغربية والدول الإسكندنافية حيث تملك مؤسسات المجتمع المدني طاقة وتأثيرا هائلا على صانع القرار السياسي الذي كثيرا ما يجد نفسه مكبلا بالقوانين التي تحد وتحول دون متطلبات العمل الاستخباري في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف الديني أو القومي والعنصري الذي ينشط بالتوازي مع التطرف الديني والإرهاب الإسلامي بشكل عام.
ونظرة سريعة على ردود الفعل الأولّية على قضية التشفير، تظهر حدود هذه المعضلة، فعلى جانب الصراع الطرف الأول ممثلا بالدولة، نرى وزارة العدل الأمريكية التي رفعت الدعوى القضائية ضد شركة أبل تعلق في بيانها الصادر بهذا الشأن قائلة إنها “تظل أولوية بالنسبة للحكومة أن تضمن تنفيذ القانون وأن تحصل على المعلومات الرقمية الهامة لحماية الأمن القومي وسلامة المواطنين، سواء من خلال التعاون مع الأطراف المعنية، أو من خلال النظام القضائي عندما لا يتأتى هذا التعاون”.
أمّا مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية جيمس كومي فقد شدّدّ على قضية أن تنفيذ القانون ينقذ حياة المواطنين، والأطفال، ويحد من الهجمات الإرهابية من خلال استغلال إمكانيات البحث التي توفر طرق للوصول إلى المعلومات على الهواتف الذكية.
أما على الجانب الأخر من الصراع الذي يمثل المجتمع المدني ومؤسساته العريضة فنرى المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة الأمير زيد بن رعد يحذّر من أن تنفيذ أمر المحكمة الأمريكية سوف يفتح أبواب كل شر، واصفا السماح للسلطات الأمريكية باختراق هاتف فاروق بأنه يشبه فتح صندوق (باندورا) للشرور.
من جانبها؛ فقد أُصيبّت شركة أبل بالصدمّة من جهة كيف استطاعت الأجهزة الأمريكية فك التشفير، ثم بدأت تبحث عن نقاط الضعف في نظام الحماية في هواتفها وصفّ رئيس الشركة- تيم كوك، السماح للسلطات الأمريكية باختراق بيانات هاتف فاروق بأنه “سابقة خطيرة”.
وأعتقد الآن؛ أنه كان لهذه الحادثة اثر كبير في قرار شركة فيسبوك بتشفير رسائل الواتس آب كتحدٍ من جانبها للتدخل الحكومي في خصوصية الشبكة والمعلومات الرقمية، خاصة أذا علمنا أنهاو عمالقة التكنولوجيا العالميون مثل غوغل، وميكروسوفت دعمّوا شركة أبل في موقفها الرافض للسماح باختراق بيانات أحد مستخدميها حتى وان كان متهما بالإرهاب.
وقصة فيسبوك مع الأجهزة الأمنية الأمريكية قديمة وتعود إلى عام 2010م مع بديات تأسيس فيسبوك، وفي هذا العام ظهر زوكربيرغ رجل العام على غلاف مجلة التايم الأمريكية([1]) التي نشرت قصة اللقاء الخاطف، حيث كان روبرت ميلر / مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية آنذاك أول من التقى مدير فيسبوك / مارك زوكربيرغ في مكتبه في الشركة وتعرف عليه وحذرة بشكل مبطن من خطورة الفيسبوك على منظومة الأمن الأمريكي بما يملكه التطبيق من إمكانيات هائلة. – والقصة طويلة ويمكن العودة اليها في عدد مجلة التايم عدد 15ديسمبر 2010– لكن العبرة منها أن الأجهزة الأمنية الأمريكية منذ ذلك الحين كانت تستشعر الخطر الذي تمثله شبكات التواصل الاجتماعي خاصة الفيسبوك على منظومة الأمن.
رعب التشفير
التشفير؛ كعملية من أهم ,واعقد القضايا التي أفرزتها سيرورة العولمة خاصة في جانبها التكنولوجي والسياسي- الأخلاقي، وهي مسالة تتداخل فيها النظرية السياسية وفلسفة الأخلاق بشكل معقد خاصة في النظرية الليبرالية أو العقد الاجتماعي السائدة في الديمقراطيات الغربية خاصة في أمريكا باعتبارها النظرية الأساسية في تكون الدولة، وعلاقتها بالأفراد. والحقوق الأساسية للأفراد وحريتهم.
من حيث أن هذا العقد هو المرجعية للحقوق الأساسية للأفراد، وأي حكم قانوني أو قضائي يخالف هذه الحقوق فهو لاغ لا قيمة له، لأن هذه الحقوق هي أساس التشريع. والمنطلق الأساسي لليبرالية هو “الحرية” كقيمة إنسانية ضرورية، ولهذا فإن من واجبات الدولة حفظ الحريات، وحرية الفكر والرأي من أهم الحريات، فهي الضمان اللازم لحماية الفرد من استبداد الحكومات ومفاسدها.
أما حدود سلطة المجتمع على الفرد وسلوكه الذي يجب عليه مراعاته مع بقية أفراد المجتمع هو فهي عدم الإضرار بالمصالح والحقوق الأساسية للآخرين، سواء ذكرت هذه الحقوق بنص القانون الصريح، أو بالفهم الضمن، ثم تحمل الفرد لنصيبه من الأعباء التي يفرضها الدفاع عن المجتمع، وحماية أعضائه من الأذى([2])
أحد المسائل التي يمكن أن تثار هنا كيف يطالب الأفراد والجماعات بحرية الراي الاطلاع على أسرار وخفايا صناعة القرار في مختلف القضايا المجتمعية في الدولة؛ ثم يقوم هؤلاء الأفراد أو الشركات (بتشفير) معلوماتهم وحجبها عن الدولة بحجة حماية خصوصية لأفراد؟
والتشفير في مفهوم الدولة القومية الحديثة انتقاص من السلطة القهرية للدولة، بمعنى أن أطرافاً ما دون الدولة مثل مؤسسات المجتمع المدني المختلفة (أفراد، جماعات إرهابية، وشركات عملاقة متخطّية للحدود القومية) تحول متعمدة دون قيام الدولة وأجهزتها المختلفة بممارسة سلطتها القهرية على حدودها القومية بحجة حماية حرية المستخدمين لديها.
تنظر الأجهزة الأمنية والاستخبارية ووكالات إنفاذ القانون في العالم إلى التشفير على انه في نهاية الأمر حماية للمجرمين والإرهابين. المستفيد الأكبر من عملية التشفير هم: الجماعات الإرهابية، الجريمة المنظمة، شبكات التهريب للمخدرات والأسلحة والرقيق الأبيض، وتبيض الأموال.
وتحاجج الأجهزة الاستخبارية في العالم أنها لا تستهدف المواطنين العادين في حربها ضد التشفير العالم للمعلومات، وأنها تستهدف حالات محددة فقط تتمثل بالجماعات الإرهابية والمشتبه بهم وملاحقتهم للحيلولة دون تنفيذ أعمالهم الإرهابية. وبالنظر إلى التعقيد الكبير وتكاليف المالية واللوجستية لعمليات المراقبة التي تقوم بها الأجهزة الاستخبارية والتي تختلف من جهاز إلى أخر، فأنه من المبالغ فيه الحديث عن مراقبتها للمواطنين الأفراد العاديين والمسالمين. ومع ذلك فأن الجدل حول حدود سلطة الدولة والأفراد تعقدت أكثر في حقبة العولمة وتغيرت بنية وسلوك “العقد الاجتماعي” القديم وحدود الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الحديثة (سقراط، أفلاطون، هوبز، لوك، وجان جاك روسو ثم جون رولز، جوزيف راز، وول كماليكا) وزاد الصراع ضراوة بين الدولة والمجتمع المدني. صراع من نوع مختلف ليس على الجغرافيا السياسية والتمثيل بل على الفضاء الافتراضي.
الإرهاب العالمي والتشفير
تحطيم البناء الهرمي للعمل الاستخباري
وتدرك كافة الأطراف الفاعلة في معادلة التشفير (المجتمع المدني والدولة) إن عملية التشفير عملية محايدة لارتباطها بالحيادية الصارمة للتكنولوجيا نفسها التي تعتبر الآن قاطرة العولمة. لذلك فأن نجاح فيسبوك ووتس آب بالتشفير حتما سيجد من يحطمه من جهة الدولة وأجهزتها الأمنية. وبالعكس أيضا فأن التشفير والحماية التي تفرضها الدولة وأجهزتها الاستخبارية يمكن أن يحطمه هاكر أعزل في قبو لا يملك إلا جهاز لاب توب. (ولذلك ليس غريبا مثلا أن ينظر مارك زوكربيرغ لنفسه على أنه في نهاية الأمر ليس سوى هاكر ويمثل أخلاقيات الهاكرية وذلك حسب توصيف الكاتب الأمريكي ستيفن ليفي في كتابه (الهاكر: أبطال ثورة الكمبيوتر، 1984و2010).
ولعل أهم مبادئ الحركة الهاكرية التي تعتبر اليوم من أهم أطراف العولمة والتي يؤمن بها زوكربيرغ هي: حرية الوصول للمعلومات، والكمبيوتر يمكن أن يحول الحياة للأفضل. ولهذا رحبت منظمة العفو الدولية (امنيستي) باعتبارها من اهم مؤسسات المجتمع المدني في حقبة العولمة الحالية بالإجراءات التي قامت بها شركة واتس آب عندما وصفت استخدام واتس آب للمرة الأولى لبروتوكول الإشارات لتمنح تشفيرا على مستوى المستخدم النهائي لمليار من مستخدميها في أنحاء العالم يمثل دفعة قوية لقدرة الأشخاص على التعبير عن أنفسهم والاتصال مع غيرهم دون خوف. وانتصار كبير للخصوصية وحرية التعبير خاصة للنشطاء والصحفيين الذين يعتمدون على الاتصالات الفعالة والجديرة بالثقة للقيام بعملهم دون أن تتعرض حياتهم لمخاطر كبيرة.
لذلك فأن القضية في نهاية الأمر ترتبط بأخلاقيات التدفق الحر للمعلومات في عصر العولمة ثم مسالة الخبرة والبراعة والتفكير الخلاّق وكسب الزمن التكنولوجي فقط.
هذا يعني؛ أنّ آليات العولمة المختلفة وخاصة التكنولوجية –باعتبارها محايدة– منحت، ومكّنّت كافة الأطراف الفاعلة في المجتمع (الدولة، والمجتمع المدني) فرصا متساوية للتأثير مع اختلاف الأوزان النسبية لقوة وإمكانيات هذا التأثير الذي يبدو على السطح انه يميل لمصلحة الدولة وان كنت أعتقد بأن هذا افتراض بحاجة إلى دراسة وتحليل أوسع واعمق حول صحته.
ما لذي يُرعب الأجهزة الاستخبارية من التشفير؟
ليس هناك من عائق في العالم يزعج رجل الأمن وخاصة رجل المخابرات من محدودية الحركة والشعور بأنه مقيد الحركة في مجال القضايا السرية الخطرة التي يكلف بمتابعتها؛ ولذلك فهو ببساطة يرى في عملية التشفير محاولة لتقيد حركته وعرقلة عملياته السرية خاصة في مجال مكافحة الإرهاب. ولذلك انزعج وأصيب بالصدمة من تصرفات شركة آبل وسيعاني اكثر من إجراءات شركة واتس آب الأخيرة.
لقد منحت، ومكّنت سيرورة العولمة الأفراد والجماعات والمنظمات الإرهابية من الكثير من الوسائل لبث الرعب والتوحش في أوصال الدول القومية اليوم وعلى رأس هذه الوسائل التكنولوجيا. وكان الإرهاب؛ الثمرة العفنة للعولمة على حد توصيف المنظر السياسي الأمريكي / بنجامين باربر – وانا أوفقه بشدة على ذلك – هو المستفيد الأعظم من سيرورة العولمة ومن آلياتها التكنولوجية تحديداً.
ولعل أحد أعظم فوائد العولمة خاصة التكنولوجية هو الإمكانيات التي يمنحها التشفير للإرهابين بما هو غطاء ودرع للحماية والإخفاء وإمكانيات هائلة للتقرب وللتجنيد والدعاية وجمع الأموال. ثم تحطيم البناء التقليدي الهرمي للعمل الاستخباري خاصة في عملية التجنيد التي تعتبر اليوم من اهم واخطر العمليات التي يقوم بها تنظيم داعش الآن في العالم.
لقد مكنت شبكة الأنترنت داعش من اختصار مراحل التجنيد من خلال المصادر البشرية التي غالبا ما تكون عرضة للمتابعة الاستخبارية من الأجهزة الأمنية المختلفة وتحولت إلى التجنيد من خلال المصادر غير البشرية (شبكة الأنترنت) التي كانت حكرا على الأجهزة الاستخبارية ونجحت بتحطيم البناء الهرمي لعملية التجنيد المبنية على مراحل: الاكتشاف، التقرب، العرض، ثم التجنيد. وكل ذلك يتم من خلال الكمبيوتر وشبكة الأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بعيدا عن متابعة ومراقبة الأجهزة الأمنية.
ثم؛ هناك اعتراف وإقرار صريح من قبل معظم خبراء الأمن في العالم ومن قبل الساسة في الغرب تحديدا بأن داعش نجح بشكل منقطع النظير في تأجيج هذا الرعب في معركة الاستفادة من آليات التكنولوجيا أكثر حتى الآن من الدول.
رعب الأجهزة الأمنية الآن مصدره أن كل ذلك أصبح يتم من خلال الكمبيوتر والأنترنت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وان عملية التشفير التي يتباهى بها عملاقة التكنولوجيا الرقمية مثل آبل، وفيسبوك، بحجة حماية خصوصية الأفراد وحرية التدفق الحر للمعلومات تساعد في تأجيج هذا الرعب.
[1] التايم http://content.time.com/time/specials/packages/article/0,28804,2036683_2037183_2037185,00.html
[2] موسوعة الدُّرر السنّيّة